الخميس، 5 فبراير 2009

صياغة جديدة لتداعيات زمن مر




ابراهيم جادالله



تداعيات زمن مر


رواية قصيرة





أتظل أشجار الأسى شامخة؟
وإلى أين يمضى بنا هذا الجنون ؟
نحن نركب قطارنا ونمضى دون سؤال
والحياة صارت ياأمى زوبعة فاسدة






هيا بنا نقف على النوافذ ، وننظر إلى الخارج ذلك أفضل من أن نتعلم أن نقرأ على الشفاه أمورا نفضل أن لا نعرفها ، وليس لدينا أشياء هامة نقولها . بل لا .. لا عندنا أشياء وأشياء نقولها ، لكن ما من أحد يريد أن يأبه لنا

إتيل عدنان
من رواية ( الست مارى روز )









إهداء

إلى الدنابيق
ناسى الذين أحببت دائما
وغضبت قليلا

ابراهيم











أ
سماء ملبدة بغيوم داكنة








1
شوقى

شوقى بن بديرالهابط ، الخارج توا من سجن المنصورة ، وقد قضى به ثلاثة أشهر ، عقابا له على انتهاكه مؤخرة فتحى ابن زينب برُقوقة وإدمائها . سقط عصر هذا النهار من منتصف عامود الكهرباء ، بعد أن خانته ساقاه ، وقد كان يحاول تسلقه للصق الصورة الكبيرة الزاهية للمرشح الدائم الترشح لانتخابات محلية وبرلمانية ونقابية وخلافه ،، والذى اعتاد التحسر بعد كل محاولة على ضياع أموال كثيرة يبذرها على غيرمن هم أهل لها ، آملا تحقق حلمه يوم ما بدخول عتبة مجلس الشعب ولو مرة واحدة، وقد تقلص حلمه لحد أن صار يرجو الله أن يعوضه عما فقد من أموال وبيع أطيان ، وان يقضى الله عنه ديونه التى يحملها فى رقبته جراء ذلك .
لما صرخ الولد شوقى من عنف الألم الذى يشق حوضه وكامل عظام ظهره ، وحين فزع إليه مرافقوه من فوق السلالم الخشبية التى يجوبون بها الشوارع والبلاد محمولة فوق الأكتاف، ومن فوق أعمدة الكهرباء المجاورة ، صرخ بعلو صوته المشروخ والخشن ، مستغيثا لاعنا حظه العثر وأيامه السوداء :
-- الله يخرب بيوتكم ، باين علينا هنطلع م المولد بلا حمص السنة دى.
ولما رفعوه وهو يتأوه ويعوى ككلب عجوز ضرب برأس فأس فوق سلسلة ظهره ، وقع فى أيديهم ، وحملقوا فى بعضهم مذعورين ، وارتعشت شفاههم بكلمات مرتعبة ، اندفعوا بعدها كل فى جهة مغايرة يختفون ، بينما غالب شوقى بكاء سيالا لم يكن ليعرف من طريق إلى روحه قبلا ، حتى يوم أن شقت لحم وجهه رقبة زجاجة الكاز المشرذمة ، لما صوبها إليه الأمير ابن أبو يوسف تسديدا لدين ما يزال حيا ، كان شوقى قد صوب إلى رأسه حجرا شق فروتها فانفجرت فيها نافورة الدم حارة وسال فوق وجهه حتى غطى عينيه.
واكتفى بعض من مارة بإبلاغ الأمر لصاحب الصورة الزاهية الراقدة بانكسار بجوار رأس شوقى التى راحت فى غيبوبة محت ضربات الألم التى فى الظهر .




2
هيثم

الطريق الداخل الى البلد عند مزلقان السكة الحديد ، سده هيثم ابن رأفت عامل التريكو بالقرية المجاورة ، والمسجل فى دوائر الشرطة بتهم عديدة ، والمطارد منها ومن أولاد الليل والعقلاء وراقصات الأفراح وبعض المطلقات والمضارين من سرقة منازلهم أو مخازن غلالهم وزرائبهم ، وقف بذراعين مفرودين أمام المرشح الشاب ، الذى يفاخر أتباعه من خلال مكبرات الصوت التى يجوبون بها السكك والبلاد ، بأنه أصغر مرشح فى بر مصر عمرا، والإبن الأوحد لأب ثرى يتاجرفى مواد البناء بالقرية المجاورة ، والتى يقول أتباعه أيضا ،إن القريتين كانتا قرية واحدة منذ الأزل ، حتى قسمتها الوسية قسمين ، يمر بينهما شريطا السكة الحديد ،وأعاد لها الرجل وحدتها وألفتها .
فتح هيثم ذراعيه عن آخرهما ، مبحلقا فى الضوء الباهر لسيارة سوداء لامعة تتقدم رتلا من سيارات مماثلة وسيارت نصف نقل ، وجرارات زراعية تجر مقطورات عالية ملأى بالصبية الهاتفين باسم المرشح القادم خلف صوت مدرب فى مكبر الصوت ،ارتعشت أمام عينيه المتورمتين ، وألقى بثقله على مقدمتها ملوحا بقبضة مستوقفة فى وجوه من بداخلها، ولما نزل من بها وقد فو جئوا بالأمر ، مندفعين نحوه ،خوف مكروه يكون أصابه من اصطدامه،أوأن تكون إصابة لحقت به ، فى وقت هم ليسوا بحاجة لحدوث أمر كهذا، انتصب هيثم متنمرا ، يطلق نظرات شرسة من عينيه ، أحاط به المندفعون منها ، فلف ودار حول نفسه مسعترضا قامته الشابة وهو يدس أصابع يده فى جيب قميصه المشجر ، والتقط مفتاحا حديديا صدئا ، وشوح به فى وجوههم المندهشة ، وبثقة راح يديره أمام أعينهم المتحلقة حوله :
_ البلد دى ما يفتحهاش غير المفتاح ده .. شايفين ؟ المفتاح ده.
علت ابتسامات على الوجوه ، واندفعت ضحكات ضاجة مرتاحة ، وتقدم إليه واحد من المتحلقين، ودس فى جيب بنطاله لفافة صغيرة استراحت لها علامات قاسية على وجه هيثم ، وتهلل بالبشر وبالخير البادىء بقطرة ، فأعاد المفتاح الصدىء إلى جيب قميصه ، وأعاد استعراض فتوته الشابة ، ملوحا بذراعين عاريين فى الهواء ، وملتقطا يد المرشح الشاب يرفعها عاليا زاعقا :
-- تنتخبوا مين ؟ وحبيبكم مين ؟
تردد النداء خلفه مجيبا باسم المرشح الذى يهبط أرض البلد للمرة الأولى، ولحقه رجال ترجلوا من سياراتهم، وصبية اندلقوا من فوق المقطورات ، تتبعهم سيارات وجرارات،ومكبر صوت يلم صبية مترقبين، ورجال يتربصون لموعد كهذا ،كانوا يقفون عند فوهات الشوارع والحارات .

3
عبوده

كان عبوده ابن الشحات القريشى هو الوحيد الذى لم يتفوه بكلمة واحدة بينما الكل حوله يثرثر وينثر الضحكات والحكايات والوعود والأمنيات ، وحده ساقطة رأسه فى حجره ، ضائعا فى داخله الذى لم يشهد خارجه مقاما كهذا ، لفافة طعام يحاول فضها ولم يفلح ، كانت الرائحة الطالعة منها تلعب فى حلقه وداخل أمعائه كما تلعب الريح فى صحراء واسعة ، لم يجرب يوما طعما كالذى يقدم عليه الآن ، فراح ينهش ما بها بنهم لم يوقف نظراته التى تروح وتجىء فى تضاريس تلك اللفافة الممتلئة والعيون المشغولة عنه بالتحديق فى ما بين محيطها ، وكان مستغرقا بكامله ، لم يدع فتاتا يسقط منه، وبحرص كحرص القطط كا ن يلتقط المتساقط تحت ذقنه بيد ثابتة ، ولأنه كان قد احتواها بين ذراعيه وقد شمر عنهما أكمام ثوبه الذى تفوح منه رائحة صابون طرية .
كان الممشى الطويل المشجر والملاصق للفيللا الأنيقة والمسيجة بالحديد المقوس والمربع والمستطيل والزاحف عليه من الداخل أوراق اللبلاب وست الحسن حتى تكاد تعزل الرؤية عنه من الخارج ،و فى نهايته وقف صاحبها رجل الأعمال الذى ينشغل الكل بترديد إسمه هذه الأيام فى كل القرى المحيطة بقريته ، وباستطالة الممشى ، كانت النضد قد مدت ، ورصت على أسطحها اللفافات ، وحولها رجال من أعمار مختلفة وهيئات متباينة وصبية مختلفى السحنات والملامح برغم البشر الذى يطفح على كل الوجوه ، أتوا ، أو جىء بهم من قرى كثيرة لتجديد التأييد للرجل مرة أخرى فى ترشحه للإنتخابات ، أو لأشياء أخرى ، كل حسب هواه الذى يختزنه
ولما كان شكرى أبو نبوت ، صهر الرجل ، والموكل إليه تأليف المؤيدين والمناصرين والأتباع . قد أفهم عبوده ابن الشحات القريشى ، بان لا يخجل من طلب مزيد من طعام إن شعر بحاجة متبقية فيه ، فقد غالب عبوده خجله للمرة الأولى ، وطوى رقبته خلف ظهر من يجاوره، فهم شكرى الأمر ، وحين صارت اللفافة بين قبضتى عبوده فور طلبها الهامس ، هب منتفضا يأخذ شكرى بين ذراعيه ويقبله ببلاهة امتنان .
كان عبوده يشعر بأن خجله وانكساره بسبب ما تلوكه الألسن ، وما يصل إلى مسمعه أحيانا من نثار أحاديث عن علاقة زوجته برجال يحسدونه عليها لنحافته وضآلة جسده وهى العفية الطافحة بالرغبات التى تتورد لها كل ملامحها المشاغبة المعانى ، وعن شبان يصادقونه رغبة فيها ، هى أمور يجاهد نفسه مغالبتها فى هذه الأيام التى تشح فيها يوميات العمل فى الغيطان ، وهى مناسبات لا تتأتى لمثله سوى كل قبضة من أعوام ، وعليه انتهازها من فرصة كما شددت هى عليه قبل خروجه من داره عصر هذا اليوم :
__ تجرى وتبهدل روحك فى الانتخابات والبلا وى الزرقا من غير فايدة ،واللا تتكسف من أيتها حد ، ما شوفش وشك فى الدار .
تجاسر عبوده بعد رحلة خاطفة نفض فيها ما هاجمته من وساوس ، وشد من أعضائه مما ألزمه أن تصير رأس شكرى الذى جلبه إلى هذا الحشد فى مواجهته ، مسح زوايا فمه وهو يهرش شعر رأسه بيده الأخرى ، فابتسم شكرى بخبث ، ودس له فى كفه المفتوحة القبضة:
__ دول لزوم اللف والجرى ياعبوده ، وما لناش بركة إلا انت .
ولما اطمأن عبوده أن دفعة أولى مما طلب متجاسرا قد رقدت فى جيب جلبابه امتلأت عروقه ثقة ، وأحس بقوة تتمدد فى أعضائه فتنتشى لها روحه المكسورة ، ورفع رأسه وما بها من هموم تلازمه منذ سمع بما كان يدور خلف ظهره من أقاويل عن زوجته ، صحبه انتشاؤه للتدافع مهللا ، باشا ، بل ومرتفع الضحكات وسط طابور طويل ، كان منذ قليل موزعا بين النضد الملأى بلفافات الطعام ، وعند الباب الحديدى للفيلا التى تفوح من أرجائها رائحة بشر وطهو وصخب وهمس وأبخرة تأتى من طابقها العلوى وعبق كثيف لدخان السجائر التى تناثرت أعقابها على أرضية الممشى الطويل ، وكان صاحبها فى جلبابه الأبيض الذى يلف كرشا يتوسطها ، يبدو كبيرا على غير حقيقته لقصر الرجل وتربع جسده ، بينما طوق الجلباب المفتوح حتى منتصف البطن أتاح لطابور المؤيدين وهم يصافحونه أن يروا أثر النعيم باديا على صدريته الحريرية ذات الخطوط القاتمة اللون واللامعة فى مجملها ، كان عبوده مشغولا بالثوب الأبيض المنشًى ذوالياقة المتصلبة على رقبة الرجل ، وتسمًرت عينه على فتحة الجلباب والصدرية ، وما أن اقتر ب دوره حتى هيأ حاله لتقبيله إن تمكن من ذلك ، وإلا فتقبيل يده أمر متاح ساعتها ، وسط تلعثمه وارتباكه وهو ينقض على اليد يقبلها ، ، رفع رأسه بصوت مرتخ :
__ والله ياعم الحاج يسرى ، ما فى حد ناجح من المرشحين الفئات غيرك ، إن شاء الله ، كل الفئات راكبين السبنسة والله.
أسقط فى يد الحاج يسرى مرشح العمال ، وفرك كفيه ، كاتما تأففه ، بينما راحت نظراته ، قاسية ، تتأجج بالعتب والغضب من شكرى أبونبوت الواقف خلفه غارقا فى ارتباكه هو الآخر.


4
رفعت


وهو يجفف بمنديل القماش الذى يملأ كفه العريضة عرقا يملأ وجهه المشعر ، المطبوع بحماس وهمة مفتعلة ، وإجهاد ، باغت الجمع بحلوله وسط دائرتهم المختلفة أعمارا وملامح وأمزجة وطباعا ، ما بين مزارع صاحب أرض أو بلا قيراط واحد وطالب الجامعة والعاطل عن عمل أو متعطل وصاحب دكان البقالة وسائق الجرار والمدرس الأزهرى وفراش المدرسة الثرثار والحلاق الأكثر ثرثرة والمطلوب القبض عليه لتهربه من الجيش أو لسداد دين حكومى والنجار وطالب الثانوى وصبية يلهون ويهرجون حول شعبان ابن يدرية بائع الخضروات بعربته الخشبية فى سوق الشيخ ضرغام بالمنصورة..
ولما لم يلتفت إليه أحد ، وبدا أن كل الحاضرين لا يعيرونه أدنى اهتمام ، برغم أنه أسنهم ، وأكثرهم اعتناءا بمظهره وهندامه المليح ، فهو ابن رجل كان له شأن فى البلد كبير قبل سنوات من غيبته الأخيرة ، برغم ما كانت تؤخذ عليه من مآخذ كثيرة فى حياته ، إلا أن الحديث فى حضرته كان دائما ما يتسم بالوقار ، وربما يعود ذلك لهيئته المهيبة التى يزكيها جسد فارع عريض يكسوه صيف شتاء الجلباب الصوفى الفضفاض والعمامة البيضاء ذات الشال الملفوف على طربوش أحمر زاه دائما ، وهى غير ما يعتمره الرجال فى البلد من شال أبيض حول طاقية صوفية ، ولأنه لم يأخذ من أبيه سوى مهابة جسدية ، فلم يعبأ به الكثيرون من أجيال توازيه عمرا أو تعقبه .
زاحمه غضب مفاجىء لما رأى عدم اكتراث من الجمع الصاخب المشغول بآخر التطورات ، والمأخوذ بالأخبار المتواردة عن المرشحين للإنتخابات فى البرلمان الجديد ، رفع ذراعيه لأعلى فبانت سواعده حتى بعد منتصفها عارية ، وصفق ممتعضا ليوقف اللغط وفوضى الأحاديث التى لاتمسك بطرف معلوم .
-- محدش سألنى أنا اتأخرت ليه ياكلاب ياولاد الكلاب ؟
ولما لم يهدأ الصخب الذى ازدادت حدته وسط المجتمعين عن عمد، وتطاير عبارات هنا وهناك تغمز من قناته ، حمى وطيس داخله ، وارتفعت موجة غضب برأسه لضياع سؤاله الذى أعاده مرة أخرى مرتفعا عن ذى قبل ، حادا ومشروخا ، ولما جوبه بما يشبه الإصرار على تجاهله ، انحنى يخلع من إحدى قدميه فردة بلغته الفاقوسى ، وراح يلوح يها أما م وجوههم الباردة ، وقد أحال تجاهلهم إلى استنكار ما لبث أن اندفع سيل من ضحك وقهقهة وتصفيق .
__ ياولاد ستين كلب يازبالة الخلق "
خيم على إثرها صمت مباغت ، وكان التوجس لحظتها يحتوى الجلوس ، بينما كان ممن لايقع بصره عليهم يتغامزون خلسة ، وهم يشيعون الكلام من خلف ظهره :
-- طول بالك يارفعت ، شوف المصيبة اللى احنا فيها الأول
قالها شاكر ابن عبده أبو دراع وسيجارته مصوبة الى وجه رفعت ،منتصبة فى زاوية فمه الحامل شفتين غليظتين ، وكان يمسح بظهر كفه عينين متورمتين ، بينما عيون بليدة غير مكترثة من رقاب مشرئبة تحوى المشهد بأكمله ، وأزاح الجالس بجواره فى غلظة تمهر تصرفاته كلها ، وجذب الواقف المنتفض المخذول وسط الدائرة من كم جلبابه ، وأجلسه بجواره .
-- البلد كلها ماسكة فى سيرتنا ليل نهار ، إبن ابو نصير ورجالته بيقولوا للناس ، إن احنا واخدين فلوس م الحاج فايز.
ضحك رفعت الذى اندفع ضحكه عاليا صاخبا ،أعقبه شخرات من حلقه مستهزئة ، بينما كانت يده تعبث بلا طائل عن سيجارة ادخرها فى جيب صدارييه .
-- قالوا ياللى ابوك مات م الجوع ، قال هوا كان شاف أكل وما أكلش ، ياناس وحدوا الله ، الحاج فايز بتاعكوا ده مش لاقى يهرش .
حكمت الفوضى المشهد فى مخزن الغلال الفارغ أسفل دار ابراهيم ابن شوقى الملاح ، اندلع صراخ وصياح احتجاج وسباب وهتافات وفوضى عارمة بين الجميع ، ما لبثوا التفرق كل فى وجهة يراها ، والحاج رفعت يحاول لملمة ماتبعثر جراء كلامه الساخر ، ويميل بقامته الفارعة على رأس شاكر ابن عبده أبو دراع المنتفضة بالزعيق الجاعر الخشن .
- يا أخى كنت غاسل هدومى ، واستنيت لما نشفوا ، وتقولوا مش واخدين فلوس م الحاج فايز؟ الله يخرب بيوتكم على بيت الحاج فايز ، الحدوتة دى على مين ؟ هه ؟ ، إذا كان مرشح فقير زى ما بتقول ، ماتيجى نلم له الزكاة ، واللا تبرعات أحسن ؟.

5
على ابن خالتك حسينة


مستغرقا فى نوم قيلولة نهار عطلة رسمية من المدرسة ، اليوم عيد جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر ، خرجت من رأس الأستاذ على ابن خالتك حسينة كل أوجاع الزمن الذى فات ، وهم الذى محتم حضوره ، فبعد عودته المظفرة لعمله بالمدرسة الابتدائية بالبلد ، وبعد عام من التقاضى والمحاكم مع ادارة التربية والتعليم ، كان حكم القضاء الإدارى حاسما لصالح عودته ، لكنه ما أن حاول نقل استطالة جسده من موضعه الساخن فوق الفراش حتى داهمته النداءات الجاعرة المتكررة والمتنوعة ، والتى تقتحم سكون الحارات والأزقة والبيوت والشوارع باتساعها أو ضيقها كل حزمة من سنوات معدودة ، تخرج من مكبر صوت لاتشوبها خرفشات أو تقطعات معتادة ، والواضح من مخرج هذه الأصوات حداثتها وقوتها ، وتتعالى حول النداءات هتافات وصفير متوال ، دعك براحتيه حبتى عينيه المقروحتين لحرارة الحجرة وأرق مغالبة هذه القيلولة المتوترة ، هب منتفضا كالذى سقط فجأة على وجهه برص ناعم الملمس حال نومه بغرفة معتمة ، ولما التقطت أذنه من بين النداءات إسما يسمعه للمرة الأولى عبر الصياح والهتافات ،حاول لملمة ذاكرته عن هذا الإسم الذى لم يغب طويلا ، فخرجت أشواك التذكر من الرأس التى بدأ يتصاعد اليها الجحيم كما قال هو بعد ذلك .
جلس مربعا ساقيه فى منتصف سريره ، وقد فتح وليده الأصغر النافذة المستطيلة التى تقف بمحاذاة السرير غير بعيد ، فعاودت الأصوات الضاجة اقتحامها ، وتفجرت السكينة التى كان ينشدها قبل قليل ، صار الإسم الذى انتفض لسماع، وأصاخ سمعه للتأكد منه يخترق طبلة أذنه بحروفه الواضحة على أسنة النداءات المرفوعة من مكبر الصوت النقى ، ويعبر إليه فى مكمنه السريرى ، ولما لم تتسع الرأس فيه لعلامات الإستفهام الذى بدأت تحاصره من كل اتجاه ، لملم نفسه ، والتقط ثوبه المعلق فوق مشجب خشبى على الحائط بأعلى رأسه بجوار السرير،وهم بالخروج .
لحظتها واجهته دنيا كاملة مشغولة بالغبار والصفير والنداءات والهتافات والتصفيق والزغاريد المصاحبة لإنشاد خشن بإسم المرشح المقتحم البلد للمرة الأولى ، الراكب سيارة زرقاء لامعة ، مفتوح سقفها الواطىء ، والمنتصب بنصفها الأعلى رجل خمسينى ، ربعة ، كبير الرأس المنتفخ وجهها باللحم واللحية السوداء المتدلية على صدره ، وكان يلوح بيدين عفيتين يمنة ويسرة ، بينما صوره التى تشبههه لحد بعيد ، تحيط به من كل ناحية ، وخلفه موكب من سيارات متمايزة الصور والأشكال ، ارتقاها شبان وصبية يلوحون بذات الصور والشارات الخضراء الموشومة من منتصفها بصورة المصحف والسيف وعبارة دائرية تحوطهما.
لما تأكد له من استرجاع وقع الإسم المتردد مع الهتافات من مكبرات الصوت عبر الحناجر الشابة ، والصور التى تشغل واجهات السيارات ومؤخراتها ، والمنقوش تحتها هذا الإسم الذى يخامره حسه به الآن ، وقد راحت ذاكرته تقف فى صحوها التام ، راحت تتقلب فى رأسه أمور كثيرة :
-- أيعقل ؟" يااااه سعد جمعة المكباتى ؟ يااااه سعد المكباتى مرشح "" والله مصير الحى يتلاقى .
وقد لمعت على الفور فى رأسه فكرة بدأت باهتة لدقائق ما لبثت أن استوت وقامت من مرقد التخمين والتردد إلى مهجع التوقد ، لم يدع لها من أسئلة تروح وتجىء تشاغل المخيلة .
ها هو سعد المكباتى على أرضه وفوق ساحته ، وفرصة سانحة لن يدعها تموت بين يديه مرة أخرى ، فسعد المكباتى المدين له بألفي جنيه مصرى على أرضه ووسط أهله ، ويستطيع الإمساك بخناقه دون خوف من أتباع له كانوا يحيطونه أينما راح أو جاء.
كان قد أوهمه بعقد عمل له فى بلاد الخليج ، أى بلد ، لم يحدد له مكانا أو أرضا ،أوتأشيرة دخول صالحة للحصول على إقامة شرعية ، بموجبها يحق له البحث عن عمل لائق ، ولعامين كاملين والأمل بالسفر يراوح مكانا لم يستطع الخروج من كابوسه المفزع صحوا ونوما ، سعد المكباتى الذى سبق صيته فى القدرة على الحصول على عقود عمل وتأشيرات دخول إلى دول البترول كل الكلام والأمنيات ، وامتلأت القرى المحيطة بأخبار من سافر واستقر وطاب له الكسب والمقام هناك ، لكنه ظل يراوغ ويزيد من نمو الأحلام داخله ، ولما بان له من كذب كل الأحاديث رغب الأستاذ على فى استرداد الألفى جنيه التى يطارده شبح إيصال الأمانة الذى وقعهسعد هذا بخط يده دينا بهما عليه لزوجة أبيه يسددهما ألفين ونصف بعد عام من سفره ، داخ الدوخات السبع عليه ليسترد الجنيهات ، وحتى لايقع بقبضة زوجة أبيه المالكة لإيصال الأمانة ، مرات يخفيه أهله عنه ، ناكرين وجوده بالدار ، ومرات يكون بضيافة الشرطة لقضاء حاجة أو لاستجواب مباغت .
مشاعره الرافضة لما يصل إلى مسمعه الآن تحفزه على الخروج من داره ، والدهشة تمور برأسه وتلتم كصديد فى رأس دمل يؤلم الصدر ، هو فى حالة تشبه من هجرها زوجها ، لم ينصت لناصحيه مرة من أن الرجل نصاب ومحترف خداع ، وأنه لن يحصل غير الوهم من السير خلف تمنياته ، وبالرغم من أن شيئا داخله كان يدفعه لتصديق ما يقال فى حق سعد المكباتى .
الدنيا بأكملها تضغط على رأسه هذه اللحظة ، والموكب الضاج يقترب زحفه قادما من شارع النوسانى وهو الشارع الرئيسى فى البلد، وصوت عزيمته يقوى وينمو داخل الرأس والروح ، لايرى الآن غير هذا المنتصب وسط عربته المكشوفة محاطا ببعض من تابعيه ، عمامة بيضاء مبرومة بعناية ويتدلى طرفها ناحية صد غه الأيمن ، ولحيته الكثيفة التى ينساب فيها الأبيض على قلته وسط كثافة الأسود ، ملوحا لنسوة فوق الأسطح وأمام الدور ، ومترجلا يصافح الرجال فى الطرقات والعائدين من غيطانهم بآخر النهار وأمام الجامع ودكاكين البقالة والحلاقة .
ولما قادته قدماه مستوقفا الموكب ، وبعصبية بدت واضحة على ملامح الوجه الحامل آثار نعاس ، وما أن لمحه سعد المكباتى الملوح باليدين المشمرتى الأكمام حتى أنزلهما واجما ، وتكدرت هيئته ، لأنه على الفور تذكر صاحب الهيئة المقتحمة ، القافز بين العربات التى توقفت فجأة لصيحته المدوية ، وهو يقفز على مقدمة العربة التى يركبها واقفا سعد المكباتى ، واختطف ميكروفون مكبر الصوت من الصبى الجالس بجوار السائق ، لكن رباطة جأش أسعفته بأن يلتقط الميكرفون من يده محيلا بينه وبين الحديث جهرا وقد أراح كفه فوق فم على ابن خالتك حسينة ، وقد صار الوجهان متقابلان .
_ خليها تعدى على خير والألف جنيه يبقوا تلاتة .
بينما يرتفع الإصرار داخل رأس على ، ويقوى عزمه على المضى فى ما انتواه .
_ وحياة دقنك الشريفة دى ليكونوا عشرة . مش تلاتة
_ طيب خليها تفوت وأنا تحت أمرك
شعر على بأن فى الأمر مراوغة وتحايل جديد ، لكنه ، ومن خلال عضلات وجه مشدودة متوفزة رد بثبات
_ يبقى أقبض دى الوقتى
_ ودى معقولة ياصاحبى " فى حالة زى دى أشيل فلوس معايا ؟
_ يبقى تكتب شيك . لأ . وصل أمانة بالمبلغ . بعشر تلاف جنيه
وقد كان
وبيد مرتعشة وعيون زائغة قلقة متوترة النظرات الكسيرة المخذولة راقبتها العيون المبحلقة من كل صوب والآذان المحاصرة المحشودة بالموقف وتداعياته ، وقع سعد المكباتى مرشح العمال لمجلس الشعب الجديدأسفل سطور بورقة ، وبخط يده كتبها بيده ، وأقر فيها بدين يبلغ عشرة آلاف جنيه لعلى ابن رجب السلكاوى الخفير .


6
الأمير ابن أبو يوسف

على أرض الحجرة الهابطة عن الحارة الضيقة درجات ، كان الأمير ابن أبو يوسف فى مقابل زوجته يجلسان حول عشائهما ، بجوارهما ولديهما ، تقضم هى فى أسى يطفح فوق ملامحها ، ولم تزل دموعها تسيل على أنفها . بعد وجبة ليلية من سباب ولعنات لها ولأمها ، وشجار دائم يلتم على إثره فى كل مرة نسوة الحارة ، ولم تعد واحدة منهن تأبه للأمر لتكراره وكثرته ، بينما هو يلملم ما يقع بين يديه ويحشو فمه بتوال وبلا اكتراث بها أو بولديه .
ولما اقتحمت الحجرة قامات ثلاث ، رفع رأسه لتضيق أمام عينيه مجالات الرؤية ، فأحس بهلع خاطف ، استعاذ على إثره بالله من الشيطان الرجيم باسما ، ومن شر الحاضرين على القاعدين ، كان أحدهم يسد بكرشه مدخل الحجرة ، ساندا كتفيه على حافة درفة الباب المغلقة ، بينما قرفص ثانيهم تحت قدميه ينفث دخان سيجارته ، وبأعلى رأس الأمير وقف ثالثهم يثنى ساقه اليمنى لتصير ركبته بمحاذاة رأس الأمير المنشغل عنهم ، فيلكزها بتلطف .
_ ياللا يا ابن شفيقة . جالك الفرج.
_ وانتوا وراكوا غير زبل الأرنب ؟ فرج إيه يابو فرج ؟
قالها الأمير وهو يزيح ما تبقى من فتات عشاء أمام ولديه ، فتقهقرت زوجته تسند ظهرهاللحائط وتدفن رأسها بين ركبتيها وهو يرمقها بغيظ ، وينهض نافضا جلبابه من نثار الفتافيت .
_ ياللا بينا من قدام بنت المرا الفقرر دى ، وخلينا نشوف الفرج بتاعكم فى ليلتكم اللى زى الهباب .
لكنهم استبقوه بتلطف مبالغ فيه تصاحبه ابتسامات وعروض بسجائر ، فصرف زوجته لتعد شايا ، ليواجهه الأشيب صاحب الوجه الملىء بالبثور والشفة السفلى الغليظة الهابطة .
_ آدى الطبلة ، وآدى البازة بتاعتها . من الليلة مش عاوزك تهدى يابطل .
لم يقل للأمير أنها كانت طبلة أبيه التى كان يدقهالإيقاظ الناس للسحور بشهر رمضان أو لصلاة فجر كل ليلة نظير نصيب فى غلال أجرانهم ، أو فطائر وكعك العيد ، ولكن الجالس القرفصاء عند قدمى الذى يسد الباب بجسده المهول قال بتهكم .
_ خد بالك ياوله .. دى من ريحة المرحوم .
كانت نذر اشتعال الموقف بينهما قد لاحت على الفور ، ولن يحتمل ضيق الحجرة وقائع عراك محتمل ، لولا أن تداركت الأمر زوجة الأمير بأكواب الشاى التى صاحت من خلال صوتها المخنوق ، فزام الأمير فى وجهها ، ولعن من أنجباها لكونها لم تعمل له حسابا فى كوب رابعة وقد التفت إليهم مسرعا .
_ طبلة إيه ، ومزيكة إيه ، هيا الناس ناقصة هوسة وزيطة ، لو عاوزين أعمل عجين الفلاحة مفيش مانع ، بس.. إيدك ياحبيبى انت وهوه .
وحك سبابته بإبهامه أمام أعينهم ، فقال المعمم أكبرهم .
_ الله يخرب بيت أبوك مطرح ما راح ، واحنا لينا بركة إلا انته . بس ينجح الحاج فايز ، وهتشوف الهنا كله .
قفز الأمير من جلسته القلقة مباغتا الثلاثة ، مقسما بأيمان الطلاق الثلاثة المغلظة أن يرسم الرمز الانتخابى للحاج فايز على صدره وظهره ، وأن لايستر نصفه الأعلى طوال فترة الدعوة للانتخابات ، لكن الأمر الذى يجب مراعاته ، وهو يحك جسده مرة أخرى بإبهامه وسبابته .
لم يباغت الثلاثة بكلام الأمير ، فهم يدركون سذاجته ، فلمعت الإشارات الطالعة من كلامه أمام أعينهم ، هبوا يصحبونه من تحت إبطيه خارجين نحو دار مشير الخطاط الذى ينمو رزقه فى مثل تلك المناسبات هو الآخر ، وتعرى الأمير أمامه ، وكانوا حوله قد ألقى بهم الضحك على وجوههم من مرآه وما تصنع بجسده العارى أصابع مشير التى تنقش بألوان زاهية الرمز الانتخابى للحاج فايز على صدره وظهره ، وفى وسط الدائرة التى تحلقت حوله ، قبض الأمير على الطبلة المصبوغة بآثار الزمن الغابر ، وبيده الأخرى البازة الرفيعة ، وقد راح يتراقص ويلف ويدور حول نفسه ، ويدق بطرفها الرفيع على حافة الطبلة ، وهم حوله يصفقون بالأكف التى التهبت مع الضحكات الساخرة وهى تتوالى وتتابع مع تتابع الملتفين حوله ، يذرعون الشوارع والحارات ، وقد صار الجمع حشدا كبيرا يهتف ويزغرد ويصفق ، بينما شفاه نسوية على الأطراف تمصمص تأسيا لما يجرى للأمير ومعه ، بينما كانت تذوب تلك المصمصات وسط الغبار الذى يعلو مع الهتاف باسم الحاج فايز .
ولما واجه الأمير آخر الليل هذا الخواء والفراغ الذى يصفر بداره التى خلت من زوجته وولديه ، جلس مخذولا منزويا فى ركن رطب من حجرته ، وأشعل نارا فى موقد الفخار المتوسط لها ، وسحب الجوزة النحاسية التى يغطيها الصدأ ، وراح يسحب أنفاسه فى استغراق بائس وتأمل عميق لما يدور بداخله المنكسر . حين كان يسترجع الأحداث التى صارت طوال ليلته ، وجيبه الخالى مما وعد به من الثلاثة التى صارت صورهم تتراءى له فى عتمة روحه القلقة بشعة وقاسية، والتى لم يستطع مقاومتها أو مطاردتها خارجها ، لكنه انتفض من عنفوان مشاعره الملتهبة ، وراح يتخلص من ملابسه بعصبية بدت فى قبضات أصابعه على لباسه الداخلى ونتفه التى تمزقت بينها ، واسند ظهره العارى لجدار الحجرة الملاصق للباب المغلق وراح يحكه به ، بينما أصابعه المتوترة تحك الصورة المنقوشة على صدره بأظافر قاسية ، ولما أعيته السبل ، وأجهدته محاولاته الخائبة لنزع صورة الحاج فايز من فوق صدره وظهره ، سقط على الأرض مغشيا عليه ، وحيدا ، تتألم روحه ، بينما ريح تصفر فيها وفى الحجرة الخالية بأسى .


7


راشد والوزير وفهمى

جاءهم بعد سنوات خمس ، ممنيا النفس بالحصول على التأييد له كما فى المرة السابقة ، لكن هذه المرة كان قد زال عنه سلطان سلطة الوظيفة الكبيرة التى كانت أكسبته مهابة وسلطانا وتألقا، وتضاءلت حاشيته التى كانت تعد له حتى خطواته التى يخطوها بين الناس وترتب له الوقت واللقاء ، فلم يحط به هذه المرة غير قلة منهم ونفر من أهل قريته المقربين ممن كانوا يحظون ببعض من نفحات سلطانه ونفوذ وظيفته .
جاء هذه المرة بلا ضجيج يسبقه أو لغط حديث يخلفه ، على قدميه قطع الشوارع والحارات ، مرافقوه يدقون على الأبواب المغلقة ، ويستأذنون أهلها فى الحديث ، فيطل البعض متأففا حانقا ، تحول سماحة النفس المعتادون عليها بينهم وبين مجاهرتهم بالإستياء من الرجل الذى مناهم كثيرا ، وراحت وعوده الممنية أدراج الرياح ، صار وقع ممانعتهم فى الجهر بالتأييد له هذه المرة قاسيا ومرا فى لحظات كثيرة ، ولذكاء وثبات عقل فيه كان يوافقهم الرأى الجارح ، ويصدقهم أقوالهم فى أنه قصر كثيرا فى حقوقهم ومطالبهم ، وأرجع الأمر فى كل أحاديثه إلى مسؤلياته الجسام فى الوزارة ماضيا ، وقد تحلل منها الآن ، ولم يخل الأمر من انكسار فى نظراته أمامهم انحنى البعض لها خجلا ، وطار صواب آخرين لها طربا .
لما تشيع نفر من مناصرى الوزير السابق فيما قبل لمواجهته ورفض تأييده هذه المرة ، وجدها راشد ابن محمد أبو دراع فرصة مواتية ينبغى اغتنامها ، فهو متربص بهؤلاء النفر منذ سنوات ، وبكل من يبادىء بالحركة وسط الناس ، فيعلو قدره بينهم ، لم يتورع يوما من النقمة على كل جميل ينبت فى حقول المودة بين أهل البلد ، متزينا بصلف يدارى به هزائم وخيبات داخلية لا يقر بها أبدا ، فبعد عسر طال مقامه فى حياته ، وحين كان مضرب الأمثال فى رثاثة الملبس بين أقرانه ، وبعد مكابدات عيش طالت منذ مولده حتى تخرجه من الجامعة ، وبعد سنوات عمله مدرسا ولم تثبت له جدارة ، أو يبدى همة يوما ما ، أتاه عفو الأقدار ، وتهيأت له سفرة لم تكن فى دائرة مخيلته الى بلاد الحجاز لسنوات أربع لم يكن بمقدوره الاستمرار هناك لشراسة الطباع وسوء التدبير ، لكنه اغتنم منها ما اغتنم من جنيهات ، عض عليها بنواجذه ، وتبدلت قليلا هيئته ، ولم يتبدل داخله الحانق المتنكر لأيامه العسيرة التى انقضت ، واللاعن أيام اليسر التى أصابت غيره حين ألبستهم راحة وطمأنينة وتأنقا ، هو الآن لم يعد يهتم بمصير أحد غير مصيره ووجوده فقط ، وجوده الخاص فى الدنيا ، ، مايشغله فقط تسلطه ومحاولات تدميرالآخرين بافتراءات وأكاذيب ، لم يعد لديه مغامرة جميلة وحقيقية للحياة ، هى فى نظره نقيض لطغيان الآخرين عليه ، وكم هو ماهر بممارسة الطغيان فى شكله الإنسانى حتى على ذويه ، تشغله فكرة سوداء أن يجبر الآخرين أن يتحركوا على أربعة أقدام لو كانت أعمدتهم الفقرية البشرية تقدر على موافقة هذا الفعل .
وجدها راشد ابن محمد أبو دراع فرصة عليه اغتنامها ، ولكن ماذا هو فاعل ، وقد تقدم بشر كثر يدعمون مرشحا مرموقا وسط أهل القرى المحيطة ، ومنافسا لهذا المرشح المدعوم من ذوى السلطة والنفوذ ، وممثلا لحزب معارض ، وأعلن بينهم بصوت جاعر دائما ، : أنه من أجل صديقه __ قال عنه صديقه __ المرشح المعارض ، والقادم من القرية الملاصقة ، والمرتبطة فى كثير من الحالات بصلات مصاهرة ونسب مع كثير من أهل قريتنا ، تخلى عن فكرة ترشيح نفسه للبرلمان ، ولأنه أجدر منه ، وهنىء به المرشح المتشابكة يده بيده ، ولوحا للملتفين حولهما فى الساحة الوسيعة فى صدر المقابر وسط البلد ، بينما تعالت دهشة متسائلة من البعض الذى شاهد راشد ابن أبو دراع ليلة الأمس يجاهر بتأييد مرشح ثالث بصحبة قلة من أهل قريته ، وكان يطرق أبواب الدور نيابة عنهم ، وبذات الصوت الأجش الخشن كان يلوك كلمات التأييد وهو يطلبها من كل من يمر بطريقه ،.
ماذا هو فاعل الآن ، والسؤال بشكله ومدارج حضوره لم يكن يوما من مفردات حياته ، كل أفعاله تأتى موتورة ومتوترة وصادمة ، هى بنت لحظتها بالكاد ، يهوى الصخب ، ويعشق الهياج ، لأنه فاقد صبره على الدوام ، ويتحاشى أن يضيع على دروب التعقل، فسجن نفسه داخل جدران منطقه الإنسانى لكل من يراه متحققا أو ناجزا عملا طيبا للآخرين .
*****
ولما لم يشتعل السؤال مرة واحدة بداخله طوال هذا العمر الممتد لأكثر من خمسين سنة ،، فلم يدرك فى كل أحواله أن أفعاله يشوبها الإضطراب والإرتباك والتناقض .
وجدها فرصة سانحة عليه اغتنامها فقط ، هاهم مناصرى الوزير السابقين يعلنون على الرجل حربا لا هوادة فيها ، لأنه خيب رجاء قرية بأكملها فى السنوات التى مضت بوعود لم يتحقق منها شىء ، فراح يعد للأمر عدة يتقنها ويعرف كافة تفاصيلها ، صاخبا ومنفلتا من عقال طال ، أحاط برغبته عاطلون وكسالى ومن فى قلوبهم هوى متشعب ، اصطفوا خلفه غير مبالين _ مثله _ بعادة أو تقاليد ، فمنهم من رأى فى الوجهة الجديدة تحقيقا لثأر قديم مع من يرفضون تأييد الرجل وإعانته فى الدعوة لنفسه مرشحا .
**********
لابد أن تواجه الوزير السابق فى بداية أمره للترشح صعوبات ، ولعل من أقواها ، عدم التكيف مع نزوات راشد وأتباعه ونزقه ، ولم يخل الأمر من صدامات حادة بين مساندى الوزير وراشد وحاشيته وصلت لحد التراشق بجارح العبارات من جهته _ كعهده _ وهو المستعصى على الآحتواء فى لحظات مواجهة مكشوفة ، فلابد من أن يصدر مواقف حادة لاقبل له بها لو أوتى منفردا ، وكثيرا ماكانت قبضات أتباعه تلوح فى الفراغ دون تحقق فعل
ولما انبرى فهمى ابن وجيه من وسط الحشد المتصايح والمتدافع خلف راشد واقفا ، كان ؛ وهو المنذور لسلاطة اللسان كراشد ، وتماما كأبيه الذى قضى أخريات سنينه حبيس شلل نصفى وثرثرات موجعة لا تخلو من افتعال نقائص ساخرة وتلامز وتنابز بألقاب كل مار به ، وحكايات عن البشر والكائنات ، يتسلى بها المتنطعون فوق المصاطب الطينية المتناثرة بجوار بيوت البلد وفى دكاكين الحلاقة، وكأنه كان يغادر أشباح القسوة التى لاقاها بعد مرضه من زوجته التى يعايرها دوما بأمها التى تبيع الروث الجاف لأفران الخبيز وكوانين الطهى الطينية ،قذف فهمى فى محيط تجمعهم البالغ الصخب والعنف المفتعل قذيفة ألهبتهم ودفعتهم لعراك لايرجى منه مروءة أو خير ، فقد أعلن بلهجة لاتخلو من صفاقة أمام أتباع الوزير السابق ، أن لاأحد بالقرية سيعطى له صوتا إن لم تساندوا فى قريته المرشح الآخر الذى يتشيع له هو وراشد ابن محمد أبو دراع ، فأسقط فى أيديهم ، وأصبحت الأمور بمنأى عن أى تقارب بفعل هذا المطلب الصعب تحققه ، لارتباط الوزير بمرشح الحزب الآخر عن العمال ، وصار الود فى تلك اللحظة آيلا للإنهيار ، ولم يتبق غير أيام قلائل عن يوم التصويت بالانتخابات .
قالها بنفسه أبرز المرافقين للوزير السابق : لو لم يكن بنا حاجة لافتعال شقاق أو خلاف لأشعلناها نارا تحرق جلودكم جميعا ، ولجعلنا الدم يسيل حتى مفاصل الأقدام ، وهم واقفا بغضب يتبعه بقية المناصرين ، وغادروا القرية بسياراتهم التى كانت تنهب الأسفلت وكأنها تؤازر خيبتهم فى تلك القرية .

8
الشيخ أحمد عباس

لايوجد أى أمر يزعجك او تعمل له حسابا ياشيخ أحمد ، أنت ، وكما تقول دوما لن تكون مناهضا لأحد من أجل عيون آخر ، فكلمتك يسمعها الجميع أرادوا أم لم يريدوا ، فى هذه الأيام أنت تقف على أرض مغايرة للكل ، من يتشيع فى مناصرة مرشح ، ومن يناصب غيره العداء ، فأنت موفور المهابة برغم تبسطك فى الحديث مع كل من هب ودب ، صغيرا أم كبيرا ، رجلا أم امرأة ، ملاحة ممازحاتك للكل وأنت تغدو وتروح للمسجد عند كل آذان تشرح الأرواح وتنفى عنها ضجرها ، يستملحون كلامك الذى تطلقه عادة بصوت هادر ومشاغب ، وإن كنت تهنأ نفسا ، ويطيب لك الجلوس عقب صلاة كل عشاء على مصطبة دكان حمدى مع من يطيب لهم الصلاة خلفك لرخامة صوتك ، كما يسعدهم ويشجيهم سماع خطب الجمع المتوالية منك ، وأنت تجاهر برأى لك لا يطيب لمن على رؤوسهم بطحة ، فهذه والله ليست بالمغرمة ، وإن كانت كذلك فى هذا الزمان ، فالأرواح جنود مجندة ، ماأتلف منها إأتلف ، وما اختلف منها اختلف ، فلماذا لا تسارع بإشهار رأيك وإطلاق العنان لكلماتك الناهية الزاجرة ، تضىء ظلمة النفوس ، وتنير العتمة التى فى الضمائر والقلوب ، تهدى الضال منهم وتهدىء روع الخائف المرتعش المشاعر ، وتعيد الصواب لكل من طاش صوابه وانفلت عقال فعله ، أنت الآن تهيىء نفسك لإطفاء نار فتنة ، ستلعن من يوقظها وقد كانت نائمة ، كما أمر بذلك من تعمل وتهدى بهديه ، وتدلل على قولك دوما من سيرته العطرة .
ذاك ما كان يمور برأس الشيخ احمد عباس ليلة الجمعة التى لن تأتى ليلة مثلها قبل يوم التصويت فى الانتخابات ، فقد رأى ما رأى ، وسمع ما سمع فى ماسبق من أيام الدعاية للمرشحين ، وسط الجماعات المتنافرة المتناحرة ، ما جعله يأسى ، وينفطر فؤاده من كل ما سمعه .
فغى الزمن الماضى قريبا كانت القرية تشبه العائلة الواحدة ، صارت اليوم فرقا وطوائف كما يسمع فى الراديو عن لبنان وأهله ، كانت خالية البال حد الجنون ، صارت مخذولة خاسرة وتشبه كلبا وضع ذيله بين رجليه ، صار الناس بها وكأنهم غرباء جدا عن بعضهم ، دوائر مغلقة وكثيرة ، كل دائرة تفعل فعل الدوران حول نفسها فقط ، أصبحت كأقفاص الببغاوات، تسمع هنا هيستيريا ضارية من جماعات تتشيع لمرشح ، تنافسها جماعات أخرى فى تشيعها لمرشح آخر ، والموجع فى الأمر كما يرى الشيخ أحمد أن كل المرشحين لا يرتبط بوشيجة وإن باهتة مع الناس فى القرية التى كانت كما حكى له الحاج عباس كثيرا على قلب رجل واحد ، سمع من أبيه ، ولم ير، لأن كل أهل حارتهم الطويلة – كما كل حارات القرية - رجالا ونساءا وصغارا وبالغين وشبانا وفتيات كانوا يلتمون حول إفطار واحد صبيحة كل عيد ، مفروشة أرض الحارة بالحصر والطبالى الملأى بأطايب الطعام من كل دار ، وأن رجال الحارة كانوا يقيمون لشهر بطوله بأحضان نظير لهم فقد عزيزا حتى يتفرق حزنه بينهم ، وهكذا كانت النسوة .
وهاهو يرى الدم ينتفض من العروق خارجا الى العيون ، وكأن حربا قد تقبل قريته عليها ، لا ناقة لها فيها ولا جمل ، أوجع فؤاده ذلك الصراخ الأجوف والهياج الذى بلا معنى لمرشح لا يرى فيه عديم نفع أو منفعة ، ولم يقدم شيئا فى حياته يرضى عنه الله ورسوله ، واندماج لحد الهوس مع مرشح ثان منافس ، ومابين الاثنين من كراهية سالت مياهها وتسربت فى دماء الفريقين من أهل القرية الواحدة ، فصاروا على عتبات استمناء لكراهية متبادلة ، سمع ، وطارت إلى مسامعه كثيرا كلمات تفتك بما نعمت به القرية منذ الأزل من الطمأنينة وخلو البال ، إن لم يدل الشيخ أحمد بدلوه فى بئر تلك المتاهة ، يقنص شوائبها ، وينقى ماءها العكر . يدرك أن عقابه عند الله سيكون شديدا ، فمن رأى منكم منكرا ، والفرقاء الأخوة . كل يستنكر المنكر الذى يراه هو بعينه فى الآخر .
المتاهة تنصب خيمتها السوداء ، ولابد من طلقاته الجسورة فى الغد بخطبة الجمعة التى لن يأتى بعدها جمعة قبل التصويت فى الانتخابات ، لا تنقصه كياسة ليدرك أن بالأمر صعوبة وعصى على الهدوء ، ولكنه لن يشارك بعرس الدم كما يذكر له صديقه المثقف محمود تلك الكلمة ، ولن يصرح بأسماء تشارك فى هذا العرس قد تكون حاضرة المسجد والخطبة أو يصل لمسمعها كى لا يزيد النار اشتعالا ، هو يتقن التلميح ، ويجيد اللف والدوران حول المقصد والمبتغى برغم صرامة عباراته التى تصل حد الوقاحة فى أحايين كثيرة ، لأنه يدرك . إذا كان النفاق وقحا ، فلتكن الصراحة باسلة ، وهو باسل حتى فى مداعباته الفجة .
******
حسب ما قدر أمورا فى داخله قبيل صعوده المنبر ظهر نهار هذه الجمعة ، كان من المأمول أن تسير الأمور طيعة ووقعها لين ، لكن نظراته المراقبة الناقدة التى تروح يمينا وشمالا وهو فى وقفته القلقة دائما فوق المنبر ، وتمسح رؤوس المصلين على كثرتهم ، قلبت الأوضاع والأحوال رأسا على عقب ، حين التقطت نظراته تغامزا وسخرية متخابثة بين اثنين من الجلوس حين تقديمه نصائحه لأهل القرية بالنظر فى مصلحتهم ، ومراعاة أواصر الترابط والمودة بينهم ، وأن لاينجرفوا خلف زيف الوعود وكذب التمنيات التى يعلنها المرشحون ، فيخسر أحدهم الآخر من أجل هذا أو ذاك ، وأنه يحق لكل واحد منهم إعطاء صوته لمن يهواه دون إكراه ، وأن التفرق والمقاتلة بينهم ليس من أجل مطلب حق وضرورى ، وأن كل مايدور بين الناس من أجل الانتخابات لايرضى عنه الله ولا رسوله ، فالذى ينفرط من أذاه كثير.
حديث خطبته كان يسير فى مجمله نحو العام من الأمور ، لم يتماس مع وقائع شاهدها ولمس ضررها بنفسه ، لم يعلن برأيه الذى يجاهر به دائما فى جلسته المتكررة بين كل صلاة أمام دكان حمدى ،ـ وعقب صلاة كل عشاء .
أثاره ما التقطته نظراته ، فوجد حاله يشوح بكلتا يديه ويصيح بثقة ، وكأنه قد هبط إلى أرض يهوى وميدان يعشق ، فركب جواد كلماته المؤنبة المقرعة ، وأبعدته كلماته الحادة عن حذره الذى أبقاه طويلا قائما بداخله فى الاقتراب من واقع الناس فى القرية الذى يستنكره ، وبرغم من هذا فقد ظل يلمح دون تصريح بأسماء يقصدها ولم يسمها ، ويقف بيقين على أفعالها ، وأعلن إدانته لكل الذى يحدث وما متوقع حدوثه ، واصفا القرية براقصة تهز خصرها لكل من ينقدها ، وهذه والله نقيصة ما بعدها من نقيصة وخجل وقلة قيمة بين عباد الله .
******
لما صار تململ المتغامزين بالصفوف الخلفية أكثر علانية ، كان الشيخ أحمد يراقبه مجاهدا شيطان غضب أن لاتنفلت منه عبارات تؤذيهما ، وكأن على رأسيهما جرحا تحسساه من كلماته التى صارت أكثر وجعا ، ما لبثا أن نفضا ثوبيهما فوق الرؤوس المجاورة ، وسحبا حذائيهما من النافذة التى تعلوها ، وخرجا لا يلويان على شىء ، بينما الرقاب المشرئبة تفضح عرى فعالهما .
ولما قضيت صلاة جمعة لن يعقبها جمعة أخرى قبل التصويت فى الانتخابات ، كانت قد قامت معركة حامية الوطيس بالساحة المستطيلة قدام الجامع ، وقد تناثر لهيبها فى كل عائلات القرية فيما بعد .



ب
واشتعلت حرائق كبيرة
تمهيدا لحريق أكبر









وقفة قبل المنحدر




فى عز حرارة الصيف اللاهبة ، وحرارة الأحداث الأكثر لهيبا ، بدت كل الأشياء ساخنة تقبل الاشتعال ،وإعلان الحريق إن تطاير أدنى شرر ، حينها تطير غربان مشتعلة الأجنحة الشوكية ، تحط على أفاريز الشبابيك وأعالى الدور الحبلى بالغضب ، وفوق أسطح فتحت مسامها للدخان ، فتأتى ريح فى غير موسمها دائما ، تدمدم وتزوم ، وتلم فى عنفوانها كل مشعلات الغضب ، ويدوى الكون بالخراب الذى يسعى .








1
شوقى بين امرأتين وصبيين


كان خبر سقوط شوقى ابن بدير من فوق عامود الكهرباء مدويا ، ارتجت القرية كلها له ، مابين شامت مقدر أنه الجزاء المستحق له عند رب العباد ، وما بين مرتجف لعواقب الخبر مما يشاع عن تربص صبية يناصرون مرشحا آخر به وأزاحوا السلم الذى يرتقيه للصعود فوق العامود فسقط وقد سمعت طقطقة عظامه ، وما بين ملتاع حزين ،وهم أهله وناسه ، ولكن زينب برقوقة أم فتحى ، الصبى الذى انتهك شوقى ابن بدير مؤخرته، لما أتاها خبر سقوطه ، وأن عظام حوضه قد تكسرت ، وأنه كان يعوى من الألم كذئب مريض ، رفعت عقيرتها ، تملأ الحارة ابتهاجا وفرحا ، ولم تمتنع عن إطلاق زغرودة تدوى ، وراحت تجرى كالذى أصابها مس تطير الخبر فى كل الحارات والأزقة ، وبين الجالسين على المصاطب وأمام فوهات الحارات ، وعلى رؤوس السكك ، وكأنها قد تخلصت من فأر أو ثعبان داخل سروالها ، وكانت تصيح : ربك بالمرصاد ، ربك المنتقم ،
وعلى غفلة منها ، بينما هى تهرول كالمهووسة ، تلقفتها يد فوقية أم شوقى ابن بدير ، وقد كانت متوارية خلف باب دار شقيقتها القائمة عند مدخل الحارة التى تسكنها زينب ، واندفعت إليها تجرها من شعر رأسها الأكرت القصير ، وقد اندلقتا فوق أرض الحارة ، ينحسر ثوباهما عن أفخاذ بيضاء ملفوفة ومنحسة ضامرة ، وتمزقت قمصان فوق الصدرين وقد صارا عاريين ، وبان ما بان ، ما جعل عيونا تلاحق المشهد غير خجلة من تلصصها ، والتمام النسوة يتراجع عن فض هذا الاشتباك ، وعهد أمره لرجال يتابعونه ، وقد قبلوا به راغبين طائعين . .


2
هيثم مقتله امرأة

لم يكن فى وسع هيثم ابن رأفت سوى أن يدور دوراته المعهودة فى شوارع البلد ، وبخاصة هذا الذى يحزمها من المنتصف ، فيقسمها ، صرة ملمومة يدور حولها الشارع ، وهى وسط البلد وحارات الجعافرة ، والجامع ، وأمين ، والسعادوة ، وأطراف تدور باستدارته وتسيجها الغيطان من كل ناحية ، يتقدم رتلا من سيارات نصف النقل ( التويوتا ) والجرارات الزراعية التى تقطر مقطورات يملأ صناديقها صبية يرفعون صور المرشح صغير السن وحيد أبويه ، والبعض يدق دفوفا وصاجات بين الأصابع ، وكثيرون يرددون الهتافات خلف الواقف يتوسطهم يزعق بصوته المبحوح ، بينما كان هيثم يترجل فى المقدمة ملوحا بسيف خشبى طلاه بالبرونز فصار يلمع تحت أضواء أعمدة الضوء الشحيحة ، وهو يمنى النفس بجولة ترضى هذا الشاب الثرى الذى أتاه خبر بذخه عن يقين .
كان عليه الاستعانة بشقيقه الأصغر الذى يتوافق معه فى كل صغيرة وكبيرة دون اهتمام منهما لاستنكارات متكررة من أشقائهما الآخرين لأفعالهما ، وما أن هم بارتقاء كتف شقيقه ليكون فى متناول الأبصار ، وهو يحدو الصبية والسائرين بموكب آخر من مواكب الدعاية ، حتى داهمت الموكب امرأة ، ثلاثينية ، ربعة ، بيضاء ، شعر رأسها الناعم معقوص بمنديل وردى خلف رقبتها الملفوفة اللامعة ، فى عينيها غضب يلتهب ويتوقد باقترابها منه ، وهى تخترق كومات الصبية والرجال والجمع المرافق للموكب، كانت تنخر بمنخاريها كذبيحة ، ، وما أن التقطت طوق قميصه ، حتى ألقت به أرضا بين رجليها المدبدبتين ، وألقت بجسدها المدكوك باللحم ، وكانت تخمش وجهه بأسنانها .
ولما كانت عجيزتها الضخمة الممتلئة الثقيلة قد ثقلت فوق جسده الهزيل ، ولما لم يستطع هو منها حراكا أو الافلات من قبضتها رهبة وحذرا من إيذائها ، فقد دفعها الأمر لتناول حذاءها ( اللميع ) وانهالت به على رأسه ، وهو أسفلها لا ينتوى حراكا خشية من يراقبون الأمر ، وكى لا يفتضح أمرهما ، ولم يستطع شقيقه المضى فى تجاهل الأمر ، فراح يمتطيها كما يمتطى الرجل بغلته ، ويقبض بساعديه على رقبتها ، مطوقا ، ومحتضنا ثدييها من الخلف ، وكانت تلك العجيزة المدملجة هى سيدة الموقف فى تلك اللحظة وسط دهشة من يراقبون بعيون شبقة .

3
عبوده يطارده شبح

كان الزقاق الرطب دائما ، والضيق لصغر البيوت الراقدة واطئة على جانبيه ، والذى تنام فى نهايته دار عبودة ابن جبر القريشى مظلما تماما ، والليل قد انتصفت قامته ، ولم يدخلها عبودة بعد من رحلته المدفوع إليها دفعا من زوجته بصحبة شكرى نبوت وآخرين .
ولما كان شكرى نبوت قد وقع فى حرج بالغ أمام صهره المرشح فى بدء تلك الليلة ، بسبب ما أعلنه عبودة من جهل بالصفة الانتخابية لصهره ، ـ أهو عن العمال أم عن الفئات ، فقام باسترداد ما أنقده عبوده من عشرة جنيهات مقابل تجنيده مع عشرات من أمثاله يتبعون صهره المرشح فى جولاته بالأصوات الهاتفة ، وكان عبودة يمنى نفسه بطريق عودته إلى داره بليلة تنعم بها زوجته عليه بعد طول هجر وصد ، ولما تحل ذكرى العشرة جنيهات التى فقدها ، وقد كانت بين يديه ، يشعر بغصة وحسرة تملأ كيانه ، وكان إحساسه بالشبع وامتلاء معدته بعد العشاء الذى لم ير له مثيلا قبل ، يزول على الفور ، وهيأ حاله المرتخية لملاقاة زوجته ولسعات لسانها ، فسار وحيدا يقطع الحارات وظلال البيوت النائمة صامتا واجما محتميا بصمته.
فى ظلام الزقاق الضيق شعر وكأن روحه تنخلع منه ، حين دفعه شبح لم يميز له ملمحا ، وكان مندفعا خارجا من داره ، لما دق على بابها دقات رهيفة ، كان الباب الخشبى القديم حينها مواربا ، تقف زوجته فى عتمة محتجزة خلفه ، فانتفض منه البدن ، وغرزت على التو وساوس كثيرة أسنانها فى رأسه وصدره ، لم يفق منها إلا وتلك الرؤوس المطلة من بين أفاريز النوافذ الضيقة حوله ، نسوة متثائيات ، ورجال يهرشن الرؤوس المخدرة من نوم مبكر ، بينما راح عبودة يدق بقبضتين واهنتين مرتعشتين فوق صدره تارة ، وفوق الباب الذى فتح عن آخره تارة أخرى ، وارتفع صراخ منه يفتك بسكون مألوف فى تلك الساعة من ليل البلد ، وقد التم على الفور جمهرة من صبية وشبان ونسوة تحيطه ، لم يفكر لحظتها من أين أتوا ، وكانت أفوه مندسة تبصق فى الفراغ ، وهمهمات بحروف تتجمع فيها أمنيات أن تتطهر الحارة والزقاق من عبودة وزوجته ، وكانت الهمهمات تبدوا واضحة الحروف فى مسمعه .


4
الحاج رفعت وسيف المقاطعة

راح سوس الشقة والخلاف ينخر فى عظام العائلة الكبيرة ، والتى بدت متماسكة طوال تاريخها المنتسب لياقوت العزازى ، العبد القادم من بلاد الجنوب الأسمر على يد أحد الأغوات ، لم يفتت تجانسها المشهود طوال حقب كثيرة سوى تلك النزعات المتهورة والانحرافات التى ظهرت على الجيل الأوسط منها ، والذى يعتبر الحاج رفعت أحد البارزين منه ، هذا على غير عادات أبيه الذى رحل عن الدنيا منذ سنوات قليلة ، وكان محط أنظار القرية كلها ، والتفاف أسرته حوله برغم المآخذ الكبيرة على تصرفات كانت مخجلة للبعض من شبابها الذى طرق أبواب المدارس والجامعات ، وكانوا يتبرمون منه علانية .
لما طار اليهم خبر الجلسة الغاضبة أمام دار راشد ابن محمد أبو دراع اليهم ، أخذتهم الغيرة العائلية ، وحنق واشمئزاز من تصرف ابن كبيرهم الحاضر ما يزال داخلهم ، فأصروا على حضوره جلسة عائلية لاستيضاح الأمر منه ، وما تلفظ به من كلمات كانت مثار الاستهزاء والسخرية منه ومن كل أفراد العائلة ، حين تفوه راشد ابن محمد أبو دراع بملء فمه له
-- : طالع لأبوك ، دايما مادد إيدك .
لكن الحاج رفعت أخذته حمية هو الآخر ، رافضا الانصياع لمرتدى البنطلونات ، وساخرا من غيرتهم المزعومة ، وأن أكبر ما بينهم مايزال يأخذ مصروف جيبه من أمه ، وكيف لصغار العائلة أن يعقدوا له محاكمة ، ليلوموه على كلام أو تصرفات ، وأن آباءهم لا يستطيعون الشرب من القلة بدون إذن نسائهم .وواصل إصراره على تأكيد ما دار فى تلك الليلة ، وأنه يناصر الحاج فايز بكل ما يملك من قوة وعزيمة ، وأنه عنده أبقى من أكبر عمامة فى عائلته ، وأن راشد أكثر أبناء البلد شهامة ووعيا ، ولم يؤازره فى تلك الساعة غير نفر قليل من أبناء العائلة ، ما بين متهرب من الخدمة العسكرية ، أو عاطل يلوذ به فى مواسم كهذه ، أو ممن ينتمون لأفرع ضعيفة وفقيرة من العائلة .
كان الغضب قد ملأ النفوس الهائجة من العائلة فى صباح الغد ، وصارت بيوتها المتناثرة فى كل حارات البلد مغلقة على جلسات حنق وغضب على الحاج رفعت ومنه ، وحضر بعضها ابنه البكر العائد قريبا من بعثة دعوة دينية ببلد أفريقى ، وهو أحد المستنكرين فعال أبيه ، وتحرش به أحد الصبية موجها كلامه إليه
-- : هوا أبوك كان راح يحج إمتى ؟ مش خسارة نقول له ياحاج ؟ .
وكان ثمة إصرار قاس على مقاطعته فى كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته ، السارة والضارة ، وكان أن تبنى غالبية أبناء تلك العائلة مساندة المرشح الذى ينافس الحاج فايز ، واعتبروه الرد الأنسب ، وكانت تلك هى القشة التى قصمت ظهر العائلة .



5
على ابن خالتى حسينةيسترد دينه؟
"

لم يكن على ابن خالتك حسينة ، وهو مااشتهر بتلك الكنية فى البلد لولادته وحيدا لأمه بعد خمس بنات وبعد موت أبيه أن يقدر للأمر قدرا أبعد من أن فرصة لاحت أمامه الآن لاسترداد الألفين من الجنيهات التى غابت عنه عامين كاملين ، فقد الأمل فى استردادهما من سعد المكباتى.
ولما توجه مع صاحب اللحية الطويلة الخشنة والعمامة المدلاة الطرفين على قفاه ، ليركب بجواره بسيارته الزرقاء الجديدة اللامعة يتقدمون رتلا من سيارات النصف نقل والجرارات الزراعية الملأى بالصبية يهتفون باسمه مناصرا للحق وشرع الله ، كان يسرق لحظة خاطفة من ضغط على ابن خالتك حسينة عليه ليخرج ساعده مشمرا عنه كم جلبابه الواسع محييا لمن يروحون ويجيئون فى طريقهم ، لايستوقفهم أمر مكرور ملول ، صارت تلك المظاهر شيئا ثقيلا على نفوسهم ، فكان من الأوفق لهم عدم اللامبالاة فى ملاقاتها ، لم يكن على ليعد للأمر أكثر من استرداد الألفى جنيه التى اقترضها من زوجة أبيه ، وسلمها راضيا مرضيا عنه للمكباتى منذ أعوام ثلاثة ليحقق رغبته بالسفر ، ولم يكن لتساوره شكوك لحظة واحدة بعد رحلة مضنية مطالبا إياه باعادتها ، وقد كان واقعا بين فكى رحى يهرسان أيامه ، فلا هو بالمسافر ليسكت إلحاح زوجته أن يسافر كأخيه من أبيه ، وليشترى ميراث شقيقاته فى الغيط والدار ،ولا هو بقادر على إرجاء تهديد زوجة أبيه بمقاضاته بالشيك الموقع أدناه بخط يده أكثر من ذلك ، ولم يكن يحدس أن لعنة ما ستصيبه ثمنا لعودة فلوسه إليه
عند فجر هذا النهار الذى ولد ساخنا ، كانت الحارة المكنوسة من أتربتها قبيل غروب الأمس والشوارع المزروعة حولها قد امتلأت بجنود مدججين ، ورتل متراص بتساو من عربات مصفحة وناقلات جند بصناديقها الزرقاء العالية المغلقة من الجهات الثلاث عند مدخل الشارع الرئيسى الذى يحزم القرية ، وعيون مخذولة يملؤها فضول ورعب مباغت ، تتلصص من خلف نوافذ مغلقة ، كان على ابن خالتك حسينة بملابس نومه وقد بللها عرقه وبوله الذى تسرب رغما عنه لفزع أصابه على التو ، معصوب العينين ، والخوف الذى يحتويه ، وصراخ زوجته ، وقد تبعتها لكمة فى فكها لم تدر من أين أتت ، فخرست على إثرها تلملم أطفالها وهم يدعكون حبات عيونهم بأصابعهم
كان قد وجه إليه تهمة . حاول الضحك منها ، لكن آثار الخوف المصحوبة بوجع فى الكتفين من ضربات من اصطحبوه حيث مركز الشرطة ، فسئل عن إيصال الأمانة الذى وقعه سعد المكباتى دينا له عليه نظير انتمائه لتنظيم تورط سعد فى الانضمام إليه ، ولما سئل عن بقية من يعرفهم من المنضمين معه ، لم تشفع له تبريرات كان يسردها بتلعثم ، ولم يكن باستطاعته الاستحواذ على جرأة كانت أداته فى الضغط على المكباتى لإقراره بذاك الدين ، خذلته قدراته فى التحايل على الواقع ومجريات الحياة ، فظل صامتا يطوى انكساره بداخله ، وكان مأخوذا بكليته للأمر .
وبعد أسبوعين كاملين قضتهما شقيقاته الخمس مقيمات بداره ترقبا لعودته ، وكأن حجرا ثقيلا يجثم على صدورهن، عاد مشعث الشعر مغبر الهيئة غائر العينين وكأن أكياس ملح تعلق بقدميه ولسانه ، على عتبة داره يقضى ساعاته شاردا وأثقالا يتزايد رسوخها على صدره. لم يعد بمقدوره إزاحتها كسابق أيامه ، صارت رأسه كخرابة مهجورة. أو كعش زنابر مهيجة فى عز قيلولة صيفية ، أما بقية ساعات ليله فالأشواك تنبت له فى كل رأسه المزحومة ، أو تدمى جسده الذى هزل




6
ما حك جلد الأمير غير ظفر الحاجة


وبعد أن أتم الأمير سحب آخر أنفاس دخان المعسل من قصبة الجوزة النحاسية ، شعر بميل لحجر معسل آخر . فأعقبه بتكاسل ، وكان قد بدأ فى استعادة قليل من تذكر لأحداث الليلة ، فنفض بصابيص النار الذاوية بحجر الجوزة فوق المعسل المحترق وقد استحال كتلة سوداء متفحمة ، أزاح بيده المعروقة طاجن الفخار الذى يلم بصابيص نيران القوالح ، وحاول أن يمدد أعضاءه ، ففرد ساقين متخاذلتين ، وأغلق عينين مقروحتين ، وكان يضطجع على جهته اليمنى مطبقا ذاراعه تحت رأسه فوق حصيرة جافة على أرض حجرته ، لكن الخواء الذى عشش ساكنا داره وقد كثفته الظلمة المهيمنة بعد انقطاع الكهرباء منذ عشاء هذه الليلة ، وغياب أنفاس زوجته وطفليه ، أدخل هلعا إلى نفسه . على إثره حاول استنهاض عافيته ، فأصابه هلع أن شعر بحكة فى صدره وظهره تؤلمه ، ولما لفحته حرقة شديدة جراء حك جلد ظهره بالحائط ليزيل آثار الرمز الانتخابى للحاج فايز المنقوش عليه ، شعر بميل جارف أن يصرخ بعلو الصوت الذى كان مخنوقا ، وهو يلف ويدور داخل حجرته كمن أصابه مس .
غالب وجعه الذى تحصل عليه من لفه ودورانه تلك الليلة بشوارع وحوارى البلد عريانا نصفه الأعلى ، وعض على حرقته ، وهم ، يرتدى جلبابه ، مسلما نفسه لظلمة الحوارى والأزقة وعتمة روحه ، وكانت البيوت والقرية كلها تغط فى نوم عميق ، ولا تدرى اقتراب فجر آخر ليوم جديد آخر .
التقاه كمال شقيق زوجته عند باب داره حين هم من نومه مفزوعا على دقات يد الأمير المرتبكة عليه ، زام فى وجهه غاضبا ، وقد طلعت اللعنات والشتائم مندفعة بينهما ، لتوقظ النيام من أهل الدار وقد عادوا أدراجهم غير آبهين بما يدور بينهما ، ولم تنس زوجة الأمير أن تبصق أمامها فوق عتبة الدار وأما م وجهه وهى تستدير داخلة ، تحاول أن تجر شقيقها من ساعده لتدخله ، وتغلق الباب عليهما ، بينما طفلاها يتململان تحت غطاء رث فقير .




7
راشد، ومن يكبح جماح هذا الشطط

الملفت للأمر فى هذه الحالة ، ولكنه لا يدعو لعجب وتعجب العارفين بأمر وأحوال راشد ابن محمد أبودراع وتقلباته ، هو فهمى ابن وجيه، فبرغم صلة القربى بينهما ، بانحدارهما لفرع رقيق الحال من عائلة كبيرة العدد ، متنوعة ،أصاب الكثير منها أخيرا رغد عيش ، إلا أن كلا منهما لم يكن ليهنأ بمجلس واحد يجمعهما ، وهذه الحالة الحاصلة الآن ، استثنائية ، ولكنها لن تمر هادئة ككل التمنيات المخبوءة بالنفوس .
وضع فهمى شروطا قاسية أمام أنصار الوزير المرشح ، فى أن يساندوا بقرية الوزير مرشحا يناصره فهمى وراشد برغم استياء الكثيرين منه فى القرية ،ومن كل المحيطين به ، وراح فهمى يشدد من شروطه وكأنه القابض على كل الأمور فى القرية ، فأتت كلماته عنيفة لحد الوقاحة ، ما جعل أنصار الوزير المتفاوضين يعلنون استياءهم من مقترح فهمى بإرسال بعض من أنصار الحاج فايز إلى قريتهم لمتابعة درجة تأييد الوزير وأتباعه للحاج فايز فى قريتهم الكبيرة العدد ناسا وأصواتا انتخابية ، ولما اعترض أحدهم بأن ذلك خروجا على أساليب الحزب الحاكم فى البلد والمترشح عنه الوزير ، وأمل أن يكون الأمر فى إطارمن السرية والكتمان ، جذب راشد من بين شفتين غليظتين نفسا من سيجارة مائلة عند زاوية من فمه ، ولما دمعت إحدى عينيه من دخان تسرب اليها ، أغمضها وهو ينفض رماد هابأصابع متوترة ، وكان ملفوفا داخل عباءة بنية اللون ، غامقة ، برغم العرق القليل الذى يلمع فوق الوجوه والأبدان بفعل حرارة أيام الصيف ولياليه ، وطفت على ملامح وجهه علامات بشر للأصوات الطالعة المختلطة المتوترة والمشحونة بتلك الفوضى التى يطرب لها وهو يراقب ما يدور بين فهمى وأنصار الوزير بشغف ، تلقوها هم بكثير من حذر وتوجس .
و الملفت للنظر من الأمور فى هذه الليلة أيضا، ولم يقف أمامه غير العارفين براشد وتقلباته ، هو إعلانه تنظيم مؤتمر حاشد للوزير فى القرية نهاية هذا الأسبوع ، وقبل الإنتخابات بثلاثة أيام ، معلنا بضخامة صوت أنه أوفر المرشحين حظا فى الحصول على مقعد البرلمان هذه السنة ، وبالرغم من علامات الضجر البادية على وجوههم ، فقد أدركوا للحظة أن هذا المؤتمر الحاشد لن يقوى على اكتماله راشد ابن محمد أبو دراع ، ولما يشأ أحد أنصار الوزير المجتمعين به أن يذكره بليلة الأمس التى كان يتصدر موكب المؤيدين لأستاذ الجامعة المترشح عن حزب معارض شديد البأس فى مناهضة سياسات الحزب الحاكم، حزب الوزير ، وخايلت الجميع ممن حوله صورته ليلة الأمس محمولا على الأعناق بالساحة المواجهة لترب القرية، يهتف لمرشح الحزب المعارض، ومعلنا بملء فمه تزكيته له وتفضيله على كل ما عداه من مرشحين ، وقال كلاما كثير ا لعب بخيال المرشح المعارض ، ونال عجبه وإعجابه ، ولكن إعجابه زاحمته صورة يحفظها جيدا لراشد وتقلباته وأهواءه .
وأسرً راشد لفهمى إبن وجيه المحاصر فى موقع مدرس اللغة العربية منذ خمسة عشر عاما لم يتزحزح للأمام قيد أنملة لسبب وحيد ، وهو كثرة تجاوزاته الخلقية مع زملائه وتلاميذه ، مما عرضه لكثير من العقوبات الوظيفية عطلت ترقيه ، أسرً له بأن فرصة نجاح الوزير هى الأفضل لأنه مدعوم من أهل الحكم وذوى النفوذ ، وفى نجاحه فرصتهما الأخيرة ، بإزاحة عقبة العقوبات من ملفات فهمى الوظيفية ، كى يسهل ترقيه ، ومساندة راشد فى الانتخابات الفرعية لنقابة المعلمين ، التى يتجاوزها طموحه إلى النقابة العامة ، وأنه سيكون خير داعم له فى تحقيق طموحه الذى يشاغله صورة هلامية عنه منذ طفولته البائسة ، وأن يكون له شأن وسط أهله ، وأسر له أيضا بأن دعم طموحهما لا يتأتى سوى عن طريق المباعدة وبذر الشائعات وإثارة الفرقة بين أنصار الوزير السابقين فى البلد من الدورة الماضية قبل سنوات خمس ، وممن كان يرى فيهم عقبات أحالت دون تحقق طموحه .، وأن يستحوذا وأتباعهما على نصرة الوزير المقرب كثيرا من رؤوس نافذة فى الحزب الحاكم.
كيف له ذلك ، وهو الذى لا يقدر على اصطفاء خلان له ؟.فاستدفأ بالكثرة التى تتبعه لحاجة فى نفس كل واحد منها ، ولكنه كان كطاحونة تسمع منها ضجيجا عاليا ولا ترى من قادوسها طحنا ، فالتفافهم حوله برغم الأهواء المتناثرة كان وسيلة لمجابهة فوضوية هذا المشهد المعتاد كل عدة سنوات فى القرية ، والبعض منهم كان يجمعهم هوى الحضور فى الصورة فقط ، وآخرون لإعلان المكبوت من ثارات نفسية مع آخرين .
وكان قربان المودة مع الوزير وأنصاره ، هو هذا المؤتمر الذى اقترحه راشد ، وسيعمل على إتمامه بكافة الوسائل ، واحتار أنصار الوزير فى امر كتموه عنه ، كيف له أن يدبر أموالا لإقامة سرادق يستوعب هذا المؤتمر ، وبكل ما يلزمه من مقاعد ومكبرات صوت وكاميرات تصوير فيديو وفوتو غرافيا ، وجريا على عادة المرشحين الموسرين ، فلابد من وجود كاميرات تصوير للفيديو ، وهو الذى تسبقه حكايات عن عدم رفضه مايقدم له من هدايا مادية أو عينية ، وليس بخاف عليهم ، كما هو ليس بخاف على أهل القرية كلها حكاية كيلو اللحم الذى كشف امر حصوله عليه من مقاول الرصف المرشح ، حين سمعهماهيثم ابن رأفت يتهامسان بجوار سرادق العزاء الذى أتاه المقاول للمجاملة والدعاية لنفسه ، فتطوع على الفور وقد فاجأهما أمره أن يوصله إلى دار راشد الذى وقع فى يده ساعتها ، ولم يجد بدا من السماح له بذلك ، وما أن قبض هيثم على لفافة اللحم ، حتى جاهر بالأمر ، عالى الصوت ، ولف ودار بالخبر ، ولم يستطع راشد مواجهته طويلا ، حتى استقر الأمر بينهما إلى مشاركة فى الأمور المشابهة. يقاسمها مع راشد رأسا برأس
وصار أمر تجهيز هذا السرادق وتكلفته طى الكتمان بين راشد وفهمى ابن وجيه، وقد أخبره راشد أن لابد من تحمل القرية كلها نفقات هذا السرادق ، فتجمع حوله من يتوافقون فى هواهم مع الأمر ، وراحوا يطوفون بالقرية ليل نهار يجمعون المساهمات ، بالحيلة مرات ، ومرات بالترغيب ، ولم يجدوا له عسرا فى الأمر ، فغالبية مازالت تعلق آمالا فى رجل الحكومة والوزير السابق ، أملا فى إنجاز المعهد الدينى والمدرسة الإعدادية لأبنائهم بديلا عن معاناتهم فى السفر يوميا إلى المنصورة أو القرية المجاورة ، وما هو ناتج عنه من مشاكل ومشاحنات بين أولادهم وأولاد هذه القرية ، وتحرش مستمر ببناتهم ، هذا غير مصروفات يلتهمها الأولاد و لا يمكن التهرب من أثقالها ،.
قبيل صلاة العصر لليوم الذى يسبق الإنتخابات بيومين، كان السيد ابن عبد الجواد وأخوته الصغار قد شدوا الأحبال بالعروق الخشبية الطويلة ، وقد ربطوا بأطرافها أقمشة السرادق الذى انتصب لمرة واحدة وارتفعت جوانبه التى سدت من جهات ثلاث بأقمشة مزركشة كأقمشة السقف تماما ، وكسيت فى معظمها بصور الوزير المرشح ، وتدلت عقود لمبات النيون ، ورصت بباحته المستطيلة الواسعة أنواع ثلاثة من كراسى ، الثلاث صفوف الأولى جلدية خضراء قام بحراستها عند رأس الصف الأول فهمى ابن وجيه ، وأشقاء راشد المهتاجون لأدنى محادثة ، والمتحفزون فى عصبية لا تدرى لماذا هم على هذه الشاكلة هذا اليوم بالتحديد ، تلتها صفوف أكثر عددا بكراسى خشبية ذات مقاعد جلدية ، بينما استكمل فضاء السرادق فى المؤخرة بصفوف من كنبات خشبية جمعت من الدور والمضايف والوحدة الصحية المجاورة ،وتصدرت السرادق منصة عالية فى المواجهة ، مرتفعة قليلا ، يعلوها يافطات تأييد ومبايعة للوزير المرشح وصوره ، وعبارات توحى بالصلة الوثيقة بينه وبين الرئيس ،.وعبارة من الرئيس ، قالها فى مناسبة لا يذكرها أحد ، لكنهم يصدقون أنه قالها ، وفى هذا الرجل بالتحديد ، فقبل توليه الوزارة كان الطبيب الخاص لزوجته ، وما يزال مستشارها فى هذا الشأن.
قبيل حضوره إالى السرادق كانت القرية تعج بالغرباء ممن لاتختفى ملامحهم ، والتى يدرك الصغير والكبير على الفور أنهم مخبرون ، ولأنهم كانوا كثيرى الحركة هنا وهناك ، ويتبادلون أطراف الكلام مع عساكر يحيطون السرادق ، ويصطفون على جانبى مدخله ، والبعض منهم كان يتضاحك مع ضابط شاب يحمل فى قبضته جهازا لاسلكيا ، يصدر أصواتا متقطعة بين الحين والآخر ، مما جعل الكل يخمن بحضور شخصيات ذات نفوذ ، إن لم يكن محافظ الإقليم وبعض من وزراء غير مترشحين ، ودار همس قوى بأن شخصية هامة ، وهامة جدا ستحضر هذا المؤتمر لتزكية الوزيرالسابق والضغط المتواصل على المنتخبين الفاقدين الثقة فيه ليعطوه أصواتهم .
وبينما اكتمل اصطفاف العربات النقل الكبيرة المصفحة الزرقاء الناقلة للجنود المدججين بخوذاتهم وعصيهم الغليظة ، وصدحت مكبرات الصوت داخل السرادق وخارجه بأعلى الأسطح المحيطة ، كانت المقاعد الخشبية قد اكتمل الجلوس عليها ، واحتشد المئات من فضوليين وقليلى الحيلة ومن ليس لديهم شاغل يشغلهم فوق الكنبات بمؤخرة السرادق ، وكانت عينا راشد المترجل بين الصفوف بالسرادق شاهرا عنفوانا هشا وتخايلا ساذجا وكبرياء طفوليا بليدا ، زاغت عيناه فوقعت على وجوه تجلس بين الصفوف الأمامية ، تابعهم بقلق ، وراح صدره يعلو ويهبط ، وأنفاسه تضطرم كضجيج ماء يسقط من بوابة قنطرة ، ورحت برأسه تلعب علامات الغضب الذى يمور كلما لمح منهم تحفزا هيىء له ، فلم يستطع وقف تربصه المختزن تجاههم وصلفه الذى لم يقو على اخفائه فى تلك الساعة التى يأمل إنجازها بسلام ، ليقدم نفسه للقادم ومعه مناصريه من رجال الحكم والإدارة كصاحب دور لا يقارن به دور فى القرية ، وانه بكسبه له كسب لتأييد الغالبية ، لحظتها خرج العفريت الذى بداخله ، وهبطت كل رغبات التسلط عليه طائعة ومستجيبة ، قبض على مكبرالصوت ، وراح يعدد من مآثر له كانت تستحضر على التو ضحكات عالية وساخرة ، وأفضالا على الصغير والكبير بالقرية ، وأنها ستستمر إن هم أعطوا الوزير أصواتهم ، ولأنه سيكون الوسيط ولا غيره بينهم وبينه فى إنجاز كافة المشاريع المبتغاة فى البلد، وأنه لا مكان للمغرضين والفاسدين بيننا ، وارتفع صوته ساعتها ، وحمى وطيس زهوه حين امتلأ السرادق عن آخره يالمتطلعين والفضوليين والمترقبين أن توزع عليهم عطايا المرشح الوزير كما اشاع وعلى عجل شعبان ابن بدرية ، وقد حسب راشد هذا الحشد من نتاج جهد وألفة بينه وبين الناس .
طارت فكرة مباغتة للتو الى رأسه ،لم يدعها تختمر فى الرأس ، فأمسك بالمكبر الصوتى من جديد ، وأشار بيده المعروقة التى ترتعش أطراف اصابعها دوما ، وأعلن : أن على الحاضرين جميعا ، ونيابة عن أهل البلد جميعهم أن يرددوا خلفه قسم الوفاء للسيد الوزير والتأييد بأصواتهم يوم الانتخاب، لكن السرادق المشغول بأشياء اخرى لم يكن ليستوعبها أبدا لولا هذا الصفير الطالع من جانبى السرادق فى المؤخرة ، حسبه استجابة لمطلبه ، فارتفعت عقيرته بالهتاف وبالقسم الذى طرأت كلماته على التو فى رأسه ، فلم يجد صدىلذلك .سوى قلة من صبية يتجولون فىشوارع البلد خلفه تمضية للساعات الفارغة فقط.
ساعتها انبرى من بين الصفوف الأمامية واحد كانت عينا راشد لا تتوقف عن ملاحقة تحركاته فى مجلسه ، اقترب من صدر المنصة العالية ومحاولاالاقتراب من مكبر الصوت الآخر الملقى فوقها ، تتردد كلمات مترجرجة فى حلقة ، لكنه أطلقه بصوت خفر ، أن علينا أن لا ننقادأو نصغى لهؤلاء الخفافيش المرصودون للظلام ، وممن لا نرى فيهم غير دعوات للهياج فقط ،
ولما كان القمقم قد خرج من صدر راشد ، فانطلق يرغى ويزبد ، تتطاير الكلمات من فمه المبلل الشفتين دوما ، وأشار بأصابع ترتعش فى وجه الواقف أسفل المنصة، مستنهضا سندا من الحضور المشغول عنهما بأشياء أخرى .، فتطوع حسن الموافى تاجر المواشى بجذبه من طوق قميصه لإنزاله من فوق المنصة .
لم يكن من امر يحكم الموقف سوى فوضى عارمة ، وصراخ نسوة فوق الأسطح المحيطة تذكر أصواتهن خلف ميت اوغريق اوحريق اشتعل فى احدى الدور بينماالسرادق يختلط فيه السباب باللكمات والآهات بالدم الذى ينفر من رؤوس عارية وغبار وفوضى ، لم تستطع العربة الزرقاء ذات الصندوق العالى المحاط بجنود مدججين ومن جاءوا لحراسة المحافظ وعلية البلاد لمناصرة الوزير المرشح ، وحماية مناصريه من اصحاب الشأن ،وقد انفرط منها جنود آخرون يملأون السرادق منتشرين فى كل جنباته، ولما لم يكن بمقدور أحد فض الفوضى ،تطوع جندى مدرب بقطع حبل الكهرباء الواصل من الماكينة التى تطقطق غير بعيد الى السرادق، ومارس الآخرون مهام أخرى يتقنونها ، فكان الصوت الطاغى ساعتها هو للقيود الحديديةالمصطكة بالمعاصم .




فى العزاء تتأسس العتمة



ما تزال آثارا باقية للمعركة الحامية الوطيس بالساحة الوسيعة أمام الجامع ذات نهار جمعة التى لن يعقبها أخرى قبل يوم التصويت بالإنتخابات
هاهو الشيح أحمد يعود من المنصورة خالى الوفاض ، بعد نهار أمس الذى قضاه بمعظمه فى التحقيق اإدارى معه بمديرية الأوقاف ، ناله حسب وصفه المرح للأمور الضيقة الحرجة ماناله من ( ضرب على قفاه ) وتوبيخ من المعمم الكبير مدير المنطقة المرتعد أما م أى صوت مرتفع أو أى مجاهر بحق أمام أى سلطة ، ولما حاول الاستيضاح من المحقق المعمم هو الآخر عن من قدم الشكوى بحقه باستخدام المسجد للتحريض ضد الحكومة ومرشحيها ، أو إزالة اللبس من الأمور ، لم يجد أذنا صاغية ، لأنه شوح فى وجهه بعريظة مستطيلة ممهورة ببعض توقيعات ، وبأسفلها تزكية بها خاتم نائب الدائرة المنقضية مدته والمرشح لمرة أخرى ، لكنه فى الأخير عاد غاضبا من لفت النظر الذى سيضاف إلى ملفه الوظيفى ، وتحذيرات شفهية من المعمم الكبير ، إن لم يقم أمر الدعوة الى الله بالحسنى سينقل الى مكان قصى فى البلاد .
ترك الأمر أثرا سيئا فى نفس الشيخ أحمد ، والغضب فى صدور أهله وعائلته الكثيرة العدد ، ومن لايستهان بأمر معاداتها ، لضمها شبان كثر عاطلين عن عمل ومتهربين من خدمة عسكرية وعصاة خارجين عن مألوف البلد من هدوء ودعة ، فصارت حالة تربص تسود بينهم لكل من سيثبت انضمامه إلى من أساء لشيخهم أحمد .
ويغيب الموت ثانى يوم عودته من المنصورة عمه الأكبر بعد مرض طال مقامه بجسده ، فأقامت العائلة سرادقا بنفس الساحة التى شهدت منذ أيام معارك طاحنة بين راشد وإخوته ومن يتبعهم فى تأييد المرشح الحكومى ، وبين مؤيدين للحاج المقاول الكبير .
ولآن تعزية العائلة لن يقتصر على أهل القرية ، فقدأوسعت عائلة الشيخ
في السرادق ,وأكثرت من إضافة هيبة عليه ، ليحظى بوقار يماثل وقاره أو توقيرهم له ،وقد يحج إليه للعزاء أصفياء ومريدين له من قرى محيطة عمل بها قبل سنوات إماما وخطيبا بمساجدها.
وحانت لحظة كان الشيخ يتوجس خيفة منها كثيرا ، لما امتلأ السرادق وغص بالمعزين ،ولعلع صوت الشيخ محمد الطنطاوى أمام الميكروفون الناقل صوته العذب الى فضاء الكون الصحو ،ولما كان يتوسط بعضا من كبار أهله وشبابها عند مدخل السرادق وقوفا صفا واحدا لمد الأيدى لطوابير المعزين ،فقد كان عليه بين لحظة وأخرى الخروج من الصف للترحيب بمعز ين قادمين من غير مكان ، ويحظون بسمعة فى البلد ،كعضو مجلس الشعب أو الموظفين الكبار بدوائر مختلفة
ولما كان للموت جلاله ورهبته فقد كان لزاما أن تصفو النفوس من مشاحنات ، وتهدأ القلوب من التخاصم بعد تقديم العزاء ، وهو ما اعتادته البلد وأهلها طوال الزمن ، وما تعهده معيشة المصريين منذ فجرهم الأول ، وهو ماجسده الشيخ احمد حين لاح له مقدم واحد ممن أساؤا له فى نهار الجمعةالشهيرة ، وممن لا يشك لحظة بوجود اسمه أسفل الشكوى المقدمة ضده بمديرية الأوقاف، فانبرى متخطيا وقفته بالصف ، ومتقدما لمصافحته وشادا على يده ليصحبه إلى مكان لائق حيث يراه أهل الحل والعقد فى البلد ، وكأنه يؤنبهم على تراخيهم فى لم الفرقة ورأب الصدع بين الأهل ، ، وقد كان هناك مقعدا جلديا قريبا شاغرا ، فاستوقفه مستلطفا جلوسه عليه، لكن الداخل للعزاء الآن كان لاويا عنقه فى أنفة مصطنعة ، ونافخا صدره بزهو مبالغ ، وبتأفف ظاهر ، وسحب يده من يد الشيخ أحمد ورافضا الجلوس فوق المقعد المشار إليه.، واندفع بعصبية تجاه صدر السرادق حيث تصطف المقاعد الجلدية ، التى تحتجز لمعزين من خارج البلد ، وحاول الشيخ احمد وقف اندفاعه بتؤدة ، ولكن السيد الموافى المنتصب فى آخر الممرات التى تقسم السرادق يستقبل القادمين ويرشدهم الى المقاعد الشاغرة ، وكا ن يضمر منذ سنوات لهذاالداخل فى نفسه أشياء ، فانتفض محمر العينين مندفعا نحوه ، وقبض على طوق قميصه وهو يجذبه بعنف رافضا جلوسه على أى من المقاعد ، التى يقصدها أو غيرها ، وكان يصيح متوترا صوته : عزاك مرفوض ، عزاك مرفوض ، ياللآ بره ، وكان يدفعه من كتفيه خارج السرادق ، ولما ارتفعت الهمهمات، تعالت صيحات من هنا وهناك تدوى بأرجاء السرادق الفسيح ، فطغت الفوضى على صوت الشيخ محمد الطنطاوى ، الذى بوغت ، ليحتبس لثوان،وليهم بعدها مدلدلا ساقيه من فوق الدكة العالية التى تتوسط الواجهة ، وهو يهز رأسه أسفا ، ونظراته تلا حق الفوضى هنا وهناك ، ويتابع تكدس جمع من رجال يتدافع خلف راشد الذى سيق نحو الخارج ، ومن فمه كانت تندفع شتائم عالية متلازمة مع يديه المشوحتين فى الوجوه بارتعاش، فما كان من عبد الحميد النحال صاحب مكبرات الصوت سوى أن أعلن بنفسه : صدق الله العظيم .
بينما سارت الأمور على غير هدى بعد ذلك





السؤال بوابة المعرفة



إن كانت المعرفة تؤسس رباطا قويا ، وتزرع نوعا من حقول مغناطيسية تلف الكائنات ، أو حتى الأشياء، فإنها فى المقابل تظهر عتمة الأمور وشوائبها الراسية فى الأعماق ، وتنتهى لنوع من التنافر ، يباعد ما بين الأقطاب التى تحمل ملامح التجانس ،وإذا كان السؤال هو بوابة الدخول الواسعة لحقل المعرفة ، فإن أسئلة كبرى تحمل أشلاء المشهد المتوتر على أجنحتها ، وقد تخرج أجوبة متفق عليها بشكل متقن ، أو إجابات متعددة ، تنضح بملامح حامليها ورؤاهم .
وثمة أسئلة لم يمنع كرنفال الألم والتوتر القائم بالبلد الآن من خروجها ، وكنت ترى من خلال الأجوبة عنها وكأن هناك تواطؤا ما أو نفض اليد من تسببها والتحلل من آثارها ، برغم اقترابها من منطق صادق.
هل كان سقوط شوقى ابن بدير من فوق عامود الكهرباء ، انتقاما ربانيا منه جزاء اعتدائه على مؤخرة الصبى ابن العاشرة ، أم أنها ثمرة التقاط الرزق فى السنوات العجاف ، والمشى على أشواك الحاجة التى هى أم الاختراع ؟
هل سرق هيثم ابن رأفت الخولى الأساور الذهبية والألف جنيه من المرأة الثلاثينية الربعة المدكوكة باللحم ، وقد كان واعدها بزواج لأيام .ليفك النحس الواقف على باب دارها وينفًركل العرسان المتهيئين لخطبتها ، وكان قد قضى معها ما قضى ، فتنكر لما وعد ؟
وهل يعرف عبودة ابن رجب القريشى ملامح الشبح الذى اصطدم بجسده النحيل فى ظلمة الزقاق قرب باب داره الذى كان مواربا ، وكان مندفعا يتعثر فى ثياب يرتدى الأسفل منها فى ارتباك ، وهل اهتدت ظنونه التى يسبقها إثم ويعقبها مثله إلى أن الشبح هذا كان بداره ؟
أيكون مهرب الحاج رفعت من أزمات أيامه ، وعثرات زمانه ، وهو الذى كان مهابا لهيبة أبيه فى مجالسته الأشقياء والعاطلين ، وتحمل إهانات راشد ابن محمد أبو دراع المتكررة له ، وأن يتورط بالرقص فى شوارع البلد ملتف الخاصرة بجديلة قش الأرز ، وفى مقدمة موكب الدعاية للمرشح الحاج فايز؟ والهمهمات خلفه تتساقط بأ ن هكذا تصنع الفلوس فى النفوس ؟
وهل حقيقة أن على ابن خالتكحسينة عضو نشط مع جماعة الإرهابيين الذين تسميهم الحكومة كذلك ، ونحن لا نعرف من أمره سوى أنه مسالم وصاحب علة تؤخره عن خطبة الجمعة دائما فى أن يدخل المسجد بهذا النهار إلا حين تقام الصلاة ، وما الحيرة من أجل وصل الأمانة الذى حصل عليه بدهاء من سعد المكباتى استردادا لدين مسلوب أضعافا مضاعفة هو ، أم للحكاية مسارب أخرى كما قيل له بالتحقيق فى سرايا النيابة بالمنصورة ؟..
قدم كثيرون للأمير ابن أبى يوسف تبريرات فى مجملها مقبولة ، فهو، حسب ما يقول ، وعلانية ، أنه عاطل، وهذا موسم ارتزاق كمواسم الحصاد للعصافير ، وهذ الموسم لا يأتى غيركل خمس أو ست سنوات ، ومن أجل لقمة العيش يلعب الإنسان مع المردة والجان ، ويمشى فى الهواء ، ويعاشر جنيات البحر ، ولكن هل وفى الحاج رفعت وراشد بوعدهما له ، وأعطياه أجره على صبغه جسده برمز الحاج فايز الإنتخابى ، أم التهما ما يبتزان به المرشحين ، ومدركين أن الأمير لن يرفع فى وجوههم صوتا ، وكما حدثتهم أنفسهم بذلك ؟ ، وأن كان قد تضرر ولم يحصل على شىء ، فلماذا يكررها ثانية وثالثة ، وقد ظل يستعرض نصفه العارى ، راقصا بموكب الحاج فايز حال تطوافه بالبلد ، والرمز الإنتخابى منقوش على صدره وظهره ليلة احتفال أنصاره بفوزه ، ، وهل صحيح أنه هو من قام بكسر ساقه كى يصل احتجاجه وتصل شكواه منهم اليه ؟.
وأى نوع من البشر راشد هذا ، والسؤال يجرجر أسئلة لا تتوقف عند أى منعطف أو تروغ ، فلا يكاد يمر أسبوع إلا وله حادثة وموقف ينشغل الناس بمضغ تفاصيلها ، ما بين استهجان ونفور ، وما بين تندر وتله بها ، فدائما ما يورطه لسانه المنعتق فى زلات لا يخجل من وقوعه ، ولا يقدم على التراجع والإعتذار عنه ، فلماذا إذن لا يقنع بما يصيبه من إهانات ، ويوقف هذيانه الجارف وتقمص دور الرجل العظيم الشأن ، وهل يكون الكذب الذى يستملحه نوع من تجمله حقا ، ولمغالبة قسوة الشعور بالوضاعة التى تطارده منذ الصغر ؟ ولماذا يدفن ماضيه القريب بهذه الجسارة ويخلق واقعا وهميا لا يمت له بصلة ، هل هو جنون العظمة حسب ما يعلنه أكثر العارفين ؟ لكن الجنون زوبعة وطريقة دائرية تأخذ صاحبها إلى هوة لا يدركها .
وهل عمل الناس بما بح به صوت الشيخ أحمد من نصح فى إصلاح أمور الدنيا والدين ، حتى يتضرر كثيرون من تقريعاته وعباراته المؤنبة ، برغم أنها تلمُح ولا تصرًح ، وهل يكون منبر الجامع الكبير أداة دعوةلإصلاح أمر الدين فقط ، أم يكون وسيطا لحمل البشر على تقويم ما اعوج من أمور الدنيا ؟.
وثمة أسئلة لم يكد الناس فى البلد يخرجونها من جوانحهم ، حتى يعيدوها كما كانت إلى ظلمة الأرواح التى يبس معينها ، وتصلبت ليونتها ، ولأنها بالتأكيد تكشف عرى الآخرين .
ولكن
وآه من لكن هذه
.



واشتعلت حرائق كثيرة
تمهيدا لحريق كبير يرتقبونه


كانت تباشير صلاة فجر يوم آخر تعلن عن نفسها بخفر وتلصص من مكبرات الصوت الناقلة التواشيح الدينية من الجامع الكبير والمساجد الأخرى عبر مذياع ، وقلة من بشر يتململون ويحركون أعضاءهم ، يغلبون لذة الساعات الأخيرة من نوم ليل مجهد كانوا حتى أثناء نومهم يتصببون عرقا ، فكل ما تحت شمسهم تعب فى تعب ، والأصوات الطالعة من المآذن تجوب فضاءات ضيقة ، وتكاد تخترق بالكاد الضباب المخيم على القرية ، وحتى الديكة لم يحن موعد صياحها الربانى ، وثمة صقيع يحمل برودة إلى أطراف رجال متسللين على قلتهم لأداء فريضة اعتادوها مهما كانت مشاق الوصول إليها ، وخيم على الشوارع والحارات سكون يترنم بوقعه ، ويستنشق رائحته هؤلاء ، وهوالسكون الراقد حتى فى لمبات الشوارع المدلاة من أعمدة صدئة ، وقد خبا ضوءها بفعل تكاثف الضباب ، ولما تتابع زحفهم ، وكانت حياة قد عادت إلى دورة مياه الجامع ، ولم يكن غير باب وحيد قد فتح فيه اتقاء لبرودة تلك الساعة .
وكان البلتاجى خادم دورة المياه وهو يرشرش ماء الوضوء على وجهه يتشمم بدربة يحسد عليها رائحة ، راح فى اصرار يحاول التطلع إلى مصدرها ونوعيتها ، فرفع رأسه ، ووارب النافذة الصغيرة التى بأعلى رأسه بالميضة ، حينها صارت الرائحة أكثر قربا من أنفه ، وعلى إثرها تهامس مع من يجاوره مقرفصا فوق الميضة يتوضأ :
-- أنا شامم ريحة حريقة ياوله
-- حريقة إيه ، جاتك حرقة بجاز ، طول عمرك شمام.
لكن البلتاجى بإحساسه وحواسه التى لم تخيب له منطقا ، فرغ من وضوئه مسرعا متلهفا ، وهرول إلى ساحة الجامع المضاءة يفتح إحدى النوافذ العالية الواسعة لتقتحمها قوافل دخان محمل برائحة ندى الصباح ، فرفع زر مكبر الصوت ، ولحظتها اندفع قبل آذان الفجر صوته مسرسعا :
حريقااااااا’ حرقة يابلد غفلانة ... إصحوا ياناس . حريقة
وللحظات ، التقطت الرؤوس النائمة على وسائد التعب الصراخ الآتى من ناحية الجامع الكبير ، فانفتحت أبواب الدور وكأنها على موعد واحد ، وانتفضت الوجوه هلعة جزعة ، فحملت النسوة على التو أوعية ودلاء تمتلىء بالماء من كل مصدر، وتحلق الرجال والصبية المباهين برجولة مبكرة أمام صبايا هلعات عاقدات الأذرع فوق الصدور الناهدة ، ومن هن المتأففات وسط الصراخ والصفير واستجابات مكبرات الصوت بالجوامع الأخرى للإستغاثة ، والكل فى تلك الصبيحة المبكرة مندفع نحو مرقد النيران ومستودع الدخان ، والذى صار عن قرب نارا مشتعلة ، حيث دار المتولى تاجر المواشى ، والذى عند مشاهته من أول مجير كان يدفع بعضديه باب زريبة بهائمه المغلقة ، ويحاول تهشيمه بعد ذلك من الداخل وبفأس فى يده صائحا مستنجدا بمن بالخارج ، أن يهموا بكسر الباب من الخارج لإخراج البهائم المحاصرة ، وقد اندفعت زوجته وأمه المنحنية فى عجزها وشيخوختها وبناته الأربع يصرخن ويولولن ،وكان الكل يحتويه فزع أغرقهم فى عجز حال ومؤقت، تكاثر المحتشدون المحيطون بالدار والزريبة ، و تجاسر بعض منهم بالقفز فوق الزريبة وسط قوافل الدخان وألسنة النيران التى صارامتدادها مخيفا وتحيط بالدار من كل ناحية ، وتسقط قطع لهب من سقف البوص والقش والخشب فوق الأبقار وصغارها والجاموس وصغارها ، والمهرة التى بلا حصان تصهل وترفس بخلفيتيها جزعة يطل رعب من بؤبؤ عينيها.
كان شريط الضوء لمقدم نهار جديد قد بدأ يتسلل ، ليزيح قوافل الضباب ، وبينما نوافير الأدخنة راحت تتلاشى وقد تحول محيط الدار والزريبة إلى بركة ماء سوداء يختلط بها احتراق القش والبوص وعروق الخشب المهشمة مع رائحة احتراق جلود حيوانية .
وتناثرت البهائم خلف الدار ، منها ما تشوه كاملا وسلخ جلده عن آخره ، وما هو ملطخ بين الاحتراق والسواد والإختناق، ومنها ما صار كفئران وليدة ، وسحب بعض الشبان عجلين رضيعين من الداخل نافقين .
غير بعيد كان يجلس الموافى مقرفصا مكلوما ، دافنا رأسه بين كفين مرتعشتين ، مخذولا منقبض الفؤاد ، يحطن به زوجته وبناته ، وأمه التى تجلس منحنية عند قدميه ، يتضامن معهن نسوة كثيرات فى عويل وتأسفات ومصمصات شفاه متوالية ، وكأنها حالة مأتم .
وبين العويل كانت تطلع الآهات المتحسرة،والكلمات التى تطير ، تلتقطها الآذان لتعيد صياغتها فى شكل آخر وجديد .
-- الله يخرب بيوتكم .. مفيش غير ولاد سكينة .. منهم لله
مالنا ومال الانتخابات ياموافى يابنى ، نجحواواستريحوا وقعدوا فى دورهم ، واحنا اللى شلنا الطين على دماغنا اهه ، كان لازم تطردوه من العزا ؟
بينما أعيدت إلى الأذهان ، ورجعت للصدور أسئلة أخرى، قد تنحبس إجاباتها إلى حين .
وقرر بعض العقلاء ، وقنع الموافى يقرارهم .
-- فوض الأمر لله،واحمد ربنا على سلامة ولادك ، وقدر الله وما شاء فعل ، واوعى تتهم حد واللا تقدم شكوى .
كان الموافى يتسمع نثار الكلام والتطمينات ، وفى رأسه تمور بداية أخرى ، يرقب هو وآخرون شكلها وميعادها .
******************************************