الأربعاء، 9 مايو 2012





الوطن المغترب ورسائل الحب والحرب

في

 إيميلات تالي الليل


لابراهيم جاد الله وكلشان البياتي

دراسة بنيوية
بقلم الدكتورة هلا الحلبي



وكان ان التقى مصري من بلاد الكنانة مع عراقية من بلاد الرافدين في سماء محايدة: الإنترنيت، فكانت مواطَنة رقمية، وكان علينا أن نتعامل مع هذه المواطنة الأدبية الجديدة، التي أوجدتها حضارتنا، على ما يحف هذا التعامل من مخاطر: إذ نحن إزاء إخراج أدبي جديد، يتناوب عليه كاتبان، بل أكثر، وحقائق تذكر بالأسماء والأرقام... والأخطر أن الكاتب مخفي وقد يلتبس عليك الأمر. فعلام يرتكز الناقد وهو المأخوذ بمرارات كثيرة: مرارة العنف التاريخي وواقع العرب الكئيب؟ أو على المآسي المتتالية علينا بدءا من احتل فلسطين مرورا بجراح كثيرة نالنا من جرائها ما نالنا؟ أعلى تمدد عسكري أميركي مشبوه في العراق ؟ أم على سيرة ذاتية ارتدادية تحمل ما تحمل من مرارة الغربة ممزوجة بلقطات حب دافئة خجولة مع نفحة غنائية متمثلة بأغان شعبية تعكس ظلالا جماعية على طيف الألم الفردي؟
لذلك كان لا بد من تحديد أبعاد يسهل بها تحديد هويتها وموقعها الروائي، فكان تقسيمها المقترح ضمن دوائر ولعل القاسم المشترك بينها هو واقع الاغتراب القسري الذي لف البطلين: غربة المواطن عن وطنه التي لا تضاهيها سوى غربته عن نفسه. بالإضافة إلى روح مستبد بها جراء حروب على الأرض، وعنف تاريخي يعصف بالعرب والإنسان، ونفس العاطفي لفّ هذه الإيميلات المكتوبة والمقتحمة عالم الحداثة الروائية.

أ_ الدائرةالأولى: الحدث والالتزام الروائي

في الإيميلات التي تبدو وكأنها متدثرة بعنف تاريخي رافق الإنسان منذ بدء البشرية، محتوى عنيف يبث صور العنف اللاحق بالعراقي والمصري على السواء.
فهل نسينا أننا أولاد قابيل، أولاد الشدة والبؤس، أولاد الشراسة، دمويون نعشق القتل والتدمير والخراب ونستلذ بآلام الآخرين ونستعذب عذابهم؟
في العراق، يبدو أنه أصبح عند العراقيين مهمة قديمة جديدة: دفن الموتى بعد قتل عشوائي، مع فارق أن لا ضرورة لشواهد القبور بسبب جهل أسماء اصحاب الجثث وكثرتها. ومع انتشار السجون الأميركية مثل بوكا وأبو غريب وسوسة، يعيشون رعب انتظار دهم المنازل تقوم به قوات غربية لا تملك غير القوة والاستبداد وتوقيف العزّل واعتقالهم بعد بث الرعب في قلوبهم: رعب الانتظار. بل لقد بلغت الاستهانة بأرواح الناس وممتلكاتهم حد القتل العشوائي والاعتداء الجسدي والاغتصاب .
وإذا كان التاريخ تعريفاً هو "تاريخ الأحداث المبني على المرويات المتوارثة من جيل إلى جيل"[1]فقد وفقت الكاتبة في تصوير رعب الحدث ورعب الانتظار وبخاصة في مبتدأ الشوق هو خبر الامتنان فنصها وثيقة تاريخية بامتياز: بما فيه من وصف للواقعة وعجز عن تعديل في مجرى الأحداث: حلا أو تدخلا، وكأن لا حق لها في تتغيير الحدث، لا تملك إلا الوقوف موقف المفعول لا الفاعل والمتفرج الذي لا حول له ولا قوة، لا تقوى إلا على الاستسلام والتأمل والتعليق.
فهل تحاول الكاتبة دخول ذاكرة الزمان التاريخية وإغناءها بالحس الأدبي كاشفة عن حاجة العربي إلى تغيير واقعه الاستسلامي والاسهام في كتابة تاريخ جديد عبر واقعية تجرؤ على وصف الحقائق وصفا يحمل لون الرفض والثورة؟
وهنا لابد من التساؤل إذا كانت هذه الرواية تحمل بصمة الحدث التاريخي بصدقه ألا يكفينا ما نشاهد على التلفزة وشاشاتها لتكون سجلا تاريخيا؟ أوليست الكاميرا أصدق إنباء من الرواية في نقل الحدث؟ أو بالحري أليست منافسا شرسا للرواية؟
الواقع أن الرواية بحبرها المدون بدم القلب، تحمل في طياتها تصوير الداخل الإنساني، بعاطفته وسورته ورعبه وجنونه، تصويرا قد يصعب على الكاميرا نقله بأمانة ودقة، في حين يسهل على القلم الروائي الذي نتحسس معه تكثيفا انطباعيا ونشوة الواقعية على قساوتها، أن يكون خير مصور للوضع البشري في تقلباته الهادئة والثائرة.
وإذا كان علينا في العراق ألا نتوقع من محتل غريب وعدو يربض على صدر الوطن سوى الظلم والقسوة والعنف ورغبة في الاستيلاء على الأرض والعباد من أبنائه، فهو عدو لئيم ومحتل غاشم _ وإن كنت هنا لا أسوّغ إرهابا وظلما
_ ولكن في مصر يبدو الأمر أشد تعقيدا، فمصدر العنف داخلي: مصدره سلطة حاكمة تعتقل أيضا وتقتل في المعتقلات أبناءها وتشردهم في أصقاع الأرض. فأي تبرير لها وهي الموكلة بتأمين أمن المواطن لا هدر أبسط حقوقه الإنسانية في الحرية والكرامة والعدل والتي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان منذ أكثر من ستين عاما؟
وهل وظيفة الأديب الملتزم قضايا وطنه إلا أن يحمل هم الوطن؟ فأنى لابراهيم أن يتعامى عن الواقع وينسى قتل أنثاه في السجون ظلما وعدوانا وتشريده ردحا طويلا من الزمان بصرف النظر إن كان تشرده قد صقل روحه الكاتبة وجعله أكثر صلابة وقدرة على المطالبة بحقوقه كابن لهذا الوطن ولهذه الأرض؟.
هكذا تولدت إيميلات تتدثر بعباءة العمل الروائي الملتزم، وتحكِم القبض على واقع الظلم بعد أن أفلت صاحبها بأعجوبة من يد الظالم إلا أنّ جراحات بقيت ممتدة أمامه بصورة جثمان حبيبة تدغدغ ذاكرته ليل نهار، فأنى له أن ينسى؟

ب_-الدائرةالثانية: الحلم الروائي وعالم الحداثة
أقحم الكومبيوتر وجوده في المنزل، وانضم معه الإنترنيت ليصبحا فردا جديدا في العائلة فأنسنا بوجوده وأرقنا غيابه، وأدمنّاه حتى صار جزءا منا، بل هو أشبه بساحر، حولنا من كائن أرضي إلى فضائي رقمي، كائن يتألم فيطلق أنينه في الفضاء، ولكن متى لم يكن يفعل ذلك؟ فما زال ندب جدتنا حواء الثكلى بابنها هابيل يتردد بأرجاء المعمورة ليذكرنا بظلم رافق الإنسان منذ ولادته، مع فارق بسيط أن هذا الأنين أصبح مدونا عبر رسائل رقمية ليلتقطه كاتبانا ويدوانه ليكون شاهدا على أنين عصرنا، شاهدا يملك سلطة العرض والإقناع.
فهل غريب أن يمتلك سلطة؟ وهل هو مطالب بحل جزء من مشاكلنا؟ أم أن كاتبنا ابراهيم جاد الله قد وجد فيه متنفسا لممارسة سلطة القلم، فنصب أشرعة الكتابة فنا أدبيا انطلق به من وطنه الصغير مصر نحو وطنه الأكبر العالم العربي ليحقق حلم العرب بالوحدة، تعاونه كلشان البياتي ، رفيقة كاتبة في قارة أخرى وإن لم تكن بعيدة كثيرا عنه جغرافيا أو كيانيا.
وحلم أمة الضاد، أن نوحد جهودنا وقوانا ونسير بخطى ثابتة، مثلما سارت أوروبا على تعدد لغاتها وتنوعها حين ثبتت قوة عالمية بفضل خطواتها البطيئة التي بدأت سوقا مشتركة سهلت التعامل بين الدول المشتركة ثم كانت خطوة توحيد العملة، قبل أن تصبح قوة يحسب لها حسابا، قوة اقتصادية وسياسية وثقافية تحاول أن تجد نفسها وسط قرن أميركي بامتياز .في حين ما نزال نلهث وراء قمع مواطنينا وتجاهل مستلزمات التطور، فنصم الأذن عن كل تخطيط يسير بنا قدما.
ألم يحن الوقت لنستفيد من تجارب الآخرين ونعرف أنّ القوة بالاتحاد وأن لا نفع يصيبنا من التخبط في مستنقع صممته يد غريبة ونفذته أيدينا بطيبة خاطر؟
فهل تحول بترولنا إلى نقمة بدل أن يكون نعمة؟ وهل نبقى غنيمة سهلة في يد الطامع الذي لا يلام بقدر ما نلام نحن الغارقون في ألاعيبه؟ ومتى نبدأ خطونا للتقارب والاعتراف بالتنوع الديمغرافي العربي من غير أن نفقد هويتنا المحلية، ومن غير أن نمس الآخر العربي المتنوع المختلف عنا؟ وهل من الصعب أن نخطو الخطوة الأولى التي تلغي الحواجز بين الدول العربية وتلغى معها جوازات المرور لكل مواطن عربي مثلما هو حاصل في أوروبا بين أبناء القارة الواحدة ؟
وإلام نحن معشر العرب نبقى في تقاتلنا ومذابحنا التي ننفذها بتخطيط غربي، نهدر دمنا وبدل أن نقتحم عالم الحداثة الذي سبقنا إليه كثيرون، نسير عكس الزمن بخطوات متراجعة نحو هاوية لا قرار لها.؟
هنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة: هل استطاع هذا العمل الروائي أن ينقل لنا المشاهد والأفعال بدقة ومسؤولية؟ وهل كان بأهمية الحدث أو بالحري هل استطاعت هذه الرواية أن ترتفع بالحدث إلى المستوى الفني ؟ أم كانت دونه قيمة؟ أو بالحري : أيهما أكثر تعبيرا: قطرة دم في سبيل الحق أم براميل من الحبر تهدر في سبيله؟
لا شك أن كلمة حق تقال في وجه سلطان جائر أو عدو غاشم هي من أبسط حقوق المواطنة، فهل مطلوب من الأفواه أن تكمّ، ومن القلم أن يسكت ولا يقوم بأدنى واجباته وهو التعبير الصادق عن الكيان الإنساني، والإفصاح عن الحقيقة وإن كانت جارحة.
صحيح أن للشهادة حقها ودورها، ولكن تبقى الكلمة المكتوبة تحديا مستمرا وطريقها شائكة مريرة: إذ من يستشهد في سبيل قضية يموت ويصبح بجهاده بطلا، أما الكاتب الثائر فعليه دائما أن يسير في جلحلة لا تنتهي إلا بموته واندثار قلمه. يكفيه ما يسجل من وقائع وما يطلق من أنين، على أمل ألا يصاب برصاصة ترديه وترده عن قول الحقيقة: إنه مشروع استشهاد مستمر وفعل شهادة حية.
لقد دخل كاتبانا هذه الجلجلة في "إيميلات تالي الليل" و كانت روايتهما شاهدا على المصائب التي تعصف بالوطن العربي في صدق صاخب، وعاطفة نتلمسها في طيات الرواية: عاطفة تضفي جوا دافئا يروي بعضا من غليل القارئ المرهق من صور الموت والدمار النفسي ، وتكون خيطا رفيعا، ولكن غير واهٍ يربط الأحداث ويشدها إلى وثاقه برقة ولباقة.
ج- الدائرةالثالثة: الوطن المغترب وخفقة العشق
يبدو أن الكاتب وهو في بلده مصر يحيا، مرارة الاغتراب القسري عن بلده الثاني العراق، والذي وجد فيه ومع أهل جدد دفء الأمان بعد تشريده عن بلده قديما: وبالمقابل، تجد الكاتبة في طيف الكاتب المغترب عنها دفء الأمان الآفل بعد احتلال وطنها من قبل أغراب وانتشار البؤس والدمار.
وهكذا غرقا في دوامة الاغتراب: اغترابه ارتدادي يسترجع به رعب الماضي بتداعياته الحاضرة: أسر ماض وقتل لحبيبة في سجون، واعتقال مستمر لم تهدأ وتيرته، واغترابها رعب تسجيل الواقع وانتظار الأسوأ.
وإذا كانت كلشان البياتي تجد طيف الحبيب البطل ممزوجا بطيف وطنها السليب الماضي بعزه، فإن ابراهيم جاد الله يجد في طيف حبيبته طيف الوطن البديل الذي احتضنه بعد تعسف وطنه الأصيل. وكلاهما مغترب يتجاذبهما انتظاران: رعب مكاني وشوق لقاء. وكأنّ في اغترابهما تحقيقاً لوجودهما الطيفي في عالم من حقوق مهدورة وظلم حاصل.
فأية غربة هي التي تعتصر الإنسان وهو مقيم في وطنه؟ وأي ألم يعصف به وحقوقه مهدورة في العيش الكريم ولا بصيص أمل في الأفق؟ وهل مصير سيزيف هو مصير كل عربي في سجنه الكبير : السجن الوطن؟ وهل هو الوطن وقد تغرب عن المواطن فأصبح غربة قاتلة وهمّا مقيما على قلوب أهله المقيمين على أرضه؟
إزاء هذه الغربة، كان من البديهي أن يتراسل غريبا الديار، ويتكبدا مشقة التراسل، وقد ربطهما شيء خفي من عاطفة مصرَّح بها بين السطور نجدها متناثرة بين طيات الرسائل . هذه العاطفة هي الغلاف الذي لف الرسائل/ الرواية، بورقة وردية تعلن حالة الحب مع الحرب، وتمزج الخارج المشتعل بالداخل الأكثر اشتعالا. ففي الحرب ترتفع وتيرة الأدرينالين المحفز الانفعالي الذي ينبه سائر الجسد تنبيها يطال الشق العاطفي، فيشتد الحنين، وتخفق القلوب، وإلا لما سعى اليوناني قديما لأن تشهد حبيبته المعارك المسرحية لتصبح بين يديه فريسة لينة، يسهل عليه تناولها. فكيف إذا كانت هذه المعارك حية بالصوت والصورة معا؟ كما يحدث وللأسف في العراق، أو كما شهدها البطل في مصر عبر مرآة ذكرياته الارتدادية مع هذه الأحداث؟
لقد كانت الوقفة العاطفية بمنزلة الملح في الرواية ، بها يظهر طيف البطلين ويختفيان ليسجلا لوعة الفراق وشوق اللقاء وأملا به. هو : يدخل قلبها من دون استئذان وهي مالكة الروح تشتعل في دمه شوقا واضطرابا .هو طير يرفرف نحو العراق مترقبا العودة ، ويسكن روح حبيبته وهي رائحة الندى النقى، متألقة في قلبه وذاكرته إلى الأبد، وها هو يعترف:
"وجهك على وسادتي ليل نهار، وعلى جدران المعتقل ، كتبت في كل ركن منها أروع قصائد العشق فيك يا أجمل نساء الأرض"
وسواء أكانت هي المقصودة بذاتها أم الأنثى الكونية بكمالاتها، فالأمر سيان لدى القارئ المراقب عن كثب الخيط العاطفي الذي يتقن كاتبنا الإمساك به وبصاحبته على الطرف الآخر.. يتقنه وهو ملتهب القلب بغاليته، يصور وقعها في نفسه وهي بدورها تتقن الذوبان في كلماته والتماهي في طيفه. وها هي تخاطبه بعد أن أدمنت رسائله الألكترونية:
ياصاحب القلب الأخضر والمدجج بالأوجاع.
كن طيبا للأبد ولا تنسنى
هي شريان عمره القادم، تعصف بها موجتان: الأولى يقودها قلبها والثانية عقلها وهي أسيرة عذابها وجراحها: المتنوعة بين خارجية تصيب الجسد وداخلية تعصف بقلبها ولا تستطيع أن تحسم أمرها بين حبيب ترتقب عودته، برائحة صدره ولمسات يده، التي تتحسسها على الرغم من البعاد، وعقل يشدها لتخوض غمار معارك الوطن بمسؤولية وواقعية. تقول:
نعم أنت حسن الذي أعرف سخونة دمه ومجراه في الشرايين والأوردة، وأعرف نبض قلبه وعدد دقاته في الثانية.
على مثل هذه السخونة في الكلمات، تشتعل الرواية حبا وحربا فتعصف بنبض القارئ المتجاذب بين فلكيهما المتناقضين، في وطن اغترب عن مواطنه وأصبح قبرا مفتوحا للأوفياء وجسرا يعبره الغريب الطامع والمحتل من غير كبير عناء.
[1] عبد الله عروي. مفهوم التاريخ.المفاهيم والأصول.ج2. المركز الثقافي العربي.بيروت والدار البيضاء. ط1. 1992.ص99



الخميس، 30 أبريل 2009



رواية عربية

إيميلات تالى الليل


إبراهيم جاد الله
كلشان البياتى




سألتنى عن العراق
وقالت:
قد سمعتُ أن العراق جميلُ
قلتُ يالندا لا تثيرى شجونى
فحديثى عن العراق طويلٌ
تلك أرض سماؤها مثل عينيك صفاء
وماؤها سلسبيلٌ
الجٍنانٌ المعلقاتٌ وعدنٌ فى رباها
وفى رباها النخيلٌ..
فاعذرينى إن لم ترُق لى أرضٌ بعد أرضى
أو عزَ عندى البديلٌ

محمد مهدى الجواهرى




لقد طفت فى شرقى البلاد وغربها
وسيًرت خيلى بينها وركابيا
فلم أرَ فيها مثل بغداد منزلا
ولم أرَ فيها مثل دجلة واديا

أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني




وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
ما مر عام والعراق ليس به جوع


السياب







الكلمة اللى ما تبقى رصاصة ملعونة وخاينة
والقلم الكداب شوكة فى طريق الحق
كسر قلمك لو ما قدرش يقول للظالم لأ
واخرس لو كان اللى حا تقوله عواله
وإلا فاسقط قتيل

سمير عبد الباقى




الإهداء

إلى روح كبيرة آسرة
إلى روح المقاوم وشهيد التحرير العربى الأول
جمال عبد الناصر
وإلى العراق فى كل تجليات محنته
إليهما روحنا ونزفنا


كلشان ، وإبراهيم





1
مبتدأ الشوق هو خبر الإمتنان

عزيزي حسن في حسنه الباقي:
أنا منار
منار العراقية التي جمعتنا أشياء أكبر من (الإيميلات) والرسائل و(مسجات الموبايل) إلتقينا في أمور كثيرة واختلفنا في مواضيع عدة . لكن ماجمعنا معاهو نزعة التحدي والإصرار على مواجهةالسلبيات ورفض الشائن من الأموردوما ودون هوادة ، منذ تلاقينا ذات شتاء بغدادى بارد وأنت تضع يدك على رأس صبية صغيرة على باب بيتنا فى أول زيارة له منك ضيفا على شقيقتى الكبرى زميلتك بالجامعة المستنصرية.
كانت فرحتي لاتوصف وأنا أرى إسمك يلمع ويضئ قائمة أسماء الشخصيات والهيئات الدولية الإنسانية والإعلامية التي أدانت واستنكرت موضوع اعتقالي لأكثر من مرة، ولم يفاجئني الأمر. فلو لم تكن قد فعلت ذلك لقلت إنك لست حسن العربى المصري إبن البلد الذي عايشته سنوات وسنوات في بغداد ، ولست حسن الذي ارتضى أن يشاركنا الحصار ويتحمل ويلاته ومآسيه على أن يغادر إلى وطنه الأم ويبحث عن البحبوحة في العيش هناك، وحيث كان ينتظره موقع علمى هام.
نعم أنت حسن الذي أعرف سخونة دمه ومجراه في الشرايين والأوردة ، وأعرف نبض قلبه وعدد دقاته في الثانية، كما أعرف كل شاردة وواردة في حياته .
أطلب الصفح ياصديق العائلة ورفيقها في السراء والضراء . ف(إيميلك) كان غير معروف لدي،تعلم أنك حين غادرت بغداد مرغما كانت تقنية (الإنترنيت) لاتزال محدودة جدا بسبب انشغال العراق بتلك الحرب الشرسة التي التهمت نيرانها الأخضر واليابس معا.
توصلت إلى (إيميلك) عن طريق محرك البحث (google). فما أن وضعت إسمك في خانة البحث حتى وجدت العشرات من المقابلات والمقالات النقدية والدراسات الفكرية ، كما البحوث المتخصصة فى فنون المسرح - عشقك الأبدى - والقصص أيضا، وكما أفعل أنا ، تنهي نشر كتاباتك دائما بنشرعنوان بريدك الألكترونى أسفلها .
آه ياحسن
مدهش هذا( النت) وعبقري كبير ، فلم تعد تفقد أحدا من الأحبة ، بغضون دقائق تصل إلى من تبحث عنه وتشتاق إليه .
أول كلماتي بعد فراق سنة وبضعة أشهر
: - إني مشتاقة إليك وإلى منار الصغيرة وهيام التي أصبحت الآن عروسا بعد فراقها لنا، وإلى الغالية أم حازم زوجتك وشقيقة روحى.
لا أريد أن أسألك ياحسن عن صحة حازم وهل تماثل للشفاء؟
لازلت أشعر بآلامك وعذاباتك بسبب مرضه وكنت أتمنى - يا صديق العمر- لو أن العراق كان معافا ولم يصب بالشلل بعد تلك الهجمة الشرسة التي أدت إلى احتلاله وسقوطه بأيدى الأمريكان وأعوانهم التى جلبوها معهم ، إنهم ياحسن هم الذين يضعون أكفهم بيد المحتل ليسهلوا له سقوط الوطن ومستقبله .
ثق ياحسن لو أن بغداد كانت في سابق عهدها من النشاط والهمة ولم تكن قد أصيبت بوعكة الاحتلال ، لكان حازم وكل مريض ومصاب عربي قد وجد علاجه في مستشفيات بغداد ، لأنها كانت تحمل فى زمانها قلبا من السكر والذهب ، نقيا بنقاء الماء وصافيا بصفاء السماء.
قلبي معك ومع حازم ، سأصلي له دائما وأدعو له في كل صلاة . أن تعود الابتسامة إلى شفاهه والصحة إلى جسمه ، ويبتعد عنه السقم والمرض.
حسن :
أرجو أن نتواصل في( الإيميلات) لتوافيني بآخر أخبارك - الشخصية والعامة - ف (الإيميل ) صار القطار الذي يوصلنا أينما نريد بعد أن عسرت علينا السفرات ، وضاقت بنا سبل الحركة جراء تدهور الوضع الأمني وتفاقمه يوما بعد يوم ، وأنت منذ غادرتنا والبهجة قد غادرتنا لافتقادنا ساعات كنت تقضيها بيننا تتندرعلى كل شىء ، وتطلق نكاتك المصرية المستملحة ،وما أجملها حين كنا نغتسل بها من هموم تسقط على أرواحنا ، كنت أتعجب لأمرك ، ولمواجهتك أوجاع روحك بهذا القدر المسرف من النكات والسخرية .
ولكنى ألتمس منك العذر شقيق روحنا . فقد تصورت أنه لن يكون بمقدوري أن اكتب إليك (إيميلا) هذه الليلة بسبب ورود شائعة سرت في الحي الذي أقطنهًُ ومفادها : أن القوات الأميركية وبمعية قوات أمن عراقية ستقوم بمداهمات في مناطق عدة ،وتعتقل من تنوي اعتقالهم ،وقد طلب مني بعض الأصدقاء مغادرة المنزل والمبيت في منزل آخر خشية التعرض للاعتقال مرة أخرى
تعلم أني غادرت ُالمعتقل قبل أشهر ثلاثة ،ولا أنوي العودة إليه مجددا ، ليس خوفا، ولكن وكما تعلم أني أختنق من الأماكن الصغيرة والضيقة، وكنت أقول لك دوما حين كنت تصر على جلوسنا فى الغرفة الأخيرة بالطابق الأرضى من بيتنا ، لأنها كانت تروق لك، لبعدها عن ضجيج الشارع والأولاد ، كنت أقول لك
: - إني أميلُ إلى الأماكن المفتوحة التي لا تحدها حدود ولا يحاصرها حاجز أو عائق.
تحدثت إليك في (إيميل) سابق قبل هذا بدقائق, وبعد إطلاق سراحي من المعتقل عن أن المكان وحده كان يسببُ لي القرف والاشمئزاز ، فقد كان عبارة عن غرفة صغيرة لاتتعدى الأمتار، وقلت لك حينها
:- إني طلبت من إدارة المعتقل نقلي إلى معتقل كبير يحوي مالا يقل عن مائة نافذة من النوافذ الكبيرة لأتمكن من رؤية الشمس من كل الاتجاهات ،ولينعم بصري بمشاهدة أفق واسع ينفرش على امتداده..
أحسبُ أنك تضحك وتسخر مني وتقول لمن يجالسك الآن.
:- معتقلة وتطلب معتقلا بشروط؟
نعم قلت حينها لضابط في المعتقل
:- هيئوا لي معتقلا بمواصفات أطلبها وتليق بواحدة مثلي،أنا معتقلة سياسية، ولست مجرمة ولا قاطعة طريق ،أنا هنا لأسباب نبيلة ربما تجهلونها أنتم الآن، ولكن بعد تحرير(بغداد) ستعرفون أني كنت مُحقة في التدللّ وطلب معتقل بالمواصفات التي تروق لي كإنسانة مناضلة أدت ما عليها من واجبات تجاه وطن محتل ، ولأني فضلت الإعتقال على الهرب ،وسلكت طريقا تقود إلى تحقيق الهدف أو تنتهي إلى المعتقل أو إلى الشهادة .
أليس هذا ماكنت تقوله للمحقق الذى كان يتناوب على استجاوبك وأنت معتقل أيام كنت طالبا بجامعة القاهرة سبعينات القرن الماضى؟
منذ المساء ، وأنا أنتظر في المنزل وأتوقع في أية لحظة أن ُتقتحم الصالة ويٌشهر عدة جنود أسلحتهم في وجهي، ويبدأ أحدهم بوضع (كيس أسود) في رأسي ويٌوثِق الآخر يداي من الخلف ويجلسونني في زاوية ما ليتفرغوا بعد ذلك لتحطيم كل ما تقع عليه أعينهم ويرفسوا ببساطليهم كل شيء حتى (المصحف الشريف) الذي أحتفظ به قريبا مني دائما لأستعيذ به من شرورهم .
لا تستغرب, ولا تتصور أني أبالغ .
مايحدث لمعشر الرجال يحدث لنا أيضا ، الإحتلال وعملاؤه يطبقونّ نظام المساواة بحذافيرها, والكيس الأسود صار من مصير الجميع , والإهانة نتجرعها نحن وهم بالكمية نفسها.
لا أخفي عليك . إني خائفة ومرعوبة وأتوسل إلى الله أن لايأتوا , وأن يبعدهم عني ، وأرددّ في سري آية من سورة ياسين (( وجعلنا من بين أيدهم سداَ ومن خلفهم سداَ فأغشيانهم فهم لايبصرون)).
شاهدتني هيام أختي الصغرى المولودة بنفس أسبوع مولد هيام بنتك هنا ببغداد وأنا أحرك شفتي. فأدركت أني خائفة، فقلت لها مبررة ضعفي
:-إنهم أعداء الله وأعداؤنا ،وأنا أسأل الله أن يكفيني شرهم ويرد كيدهم إلى نحورهم ، وناشدتها أن ترتّل معي الآيات .
أربع ساعات ونصف الساعة وأنا أرقب البابين الرئيسيين للمنزل وبصري ثابت على أبواب الغرف، وأتلصص من النوافذ، وكلما أسمع صوتا أو قرقعة في الخارج أشعرُ أنهم جاؤا، وكلما تمر طائرة من فوق البيت ويقترب صوتها من أذني أتصور أنهم نزلوا لي من السماء وأحدثوا ثقبا في سقف الغرفة . وضعت (دلّة) القهوة فوق رأس المدفأة النفطية، وكثيرا ماتنهرني أمي لإطفائها مرارا لنفاذ النفط فيها ولحفظ ما تبقى بها لصباح الغد ،ولازلت أجترع ما تبقى من القهوة في ثامن فنجان خلال ساعات الليل الذي لم تحن ساعة منتصفه بعد ، كما تناولت كأسين من شراب "السفن" بحجة أن معدتي تحتاج إلى شراب مطهرّ مع أني لم أتناول شيئا من "سندويجًات الهمبركر" التي أحتفظ بها في الثلاجة بعد أن تم إعدادها لطعام عشاء اليوم.
بعد أن جاء شقيقي صهيب بخبر المداهمة رغم أنه ليس بخبر طارئ نهرته أمي قائلة له
:- الأخبار السيئة تقال بعد الأكل وليس قبله .
تلقى صهيب جرعة(الرزالة)وسحب (السندويجات) والتهمها مرة واحدة ، وامتنعت أنا وأمي عن تناول أية قطعة منها وذهبت أمي إلى الفراش وغطت في النوم ، بينما غادر النوم جفوني وبقيت أتأمل الأبواب وهي تقتحم فجأة ويدخل جنود مدججون بالسلاح ويبدؤون بركل كل شي ببساطيلهم ، ولكن لماذا يفعلون ذلك، وما الغرض في أن يقدموا على تحطيم محتويات الغرفة وتكسير الأواني وأقداح الشاي والماء وفناجين القهوة هل هي مضرة لهم وتسبب الصداع أيضا ؟
أم أنهم يفعلون ذلك ليبرهنوا أنهم سادة الموقف وأنهم أقوياء وبإمكانهم أن يفعلوا أي شي.
قبل شروعي في الكتابة إليك ذهبت إلى الثلاجة وجئت بقطعة بسكويت لأمضغها مع فنجال القهوة بعد أن داهمني الجوع ، وقلت في نفسي يجب أن أتهيأ وأملأ معدتي فربما سيأتي الجنود ويداهمون المنزل ويقتادونني إلى معسكر وأبقى أياما وساعات بدون طعام .
هذاجزء من أسلوبهم النفسي في التأثير على المعتقل لنزع الإعتراف منه ، وقمت بارتداء معطف سميك،وألقيت بالشال على كتفي تحسبا للبرد فالشتاء لايزال يقبع في أجسادنا وأخشى أن يداهمني البرد وأنا معتقلة عندهم في المعسكر.
قمت بتشغيل جهاز(الستلايت) وكنت قد أوصدته أيضا ليتسنى لي التنصت لأي صوت في الخارج، وقمت بتشغيل جهاز الحاسوب والعمل عليه بعد أن طال انتظاري ودخل اليأس إلى قلبي، وتيقنت أنهم لن يأتوا هذه الليلة وقد يأتون غدا أو بعد غد. لا أعرف متى يأتون ، لكن عليّ أن أنتظر قدومهم في كل ليلة وأعيش الرعب والقلق ذاته .
الحمد لله أنك لاتعيش في هذه الأجواء وقد غادرت البلد قبل أن يتمكنوا من اعتقالك ،ولم تقع عيناك على جنود يداهمون البيوت مثل مهاجمة وحوش لأية فريسة ، وأن الغالية أم حازم وكأنها كانت تتوقع حدوث تلك الأمور فأقنعت البنات بالسفر للأردن لتكون على مقربة حتى تتهيأ الأحوال ، وحين ساءت الأمور تباعا عادت بحازم وبالبنات ومنار الصغرى إلى مصر تاركة ماجد بصحبتك هنا.
بعد أن أنهي كتابة هذا (الإيميل) إليك سآوي إلى الفراش وأنا مطمئنة أني سأخلد إلى النوم . فما أن أضع رأسي على الوسادة حتى يزورني طيف مروان وتنبعث رائحة صدره التي أحبها إلى أنفي وترغمني على الغفوة وأتحسس لمسات يديه على شعري حين كان يلقاني مجهدة كثيرا من العمل المتواصل .
في الجو المضطرب أمنيا ونفسيا عزائي الوحيد طيف مروان الذي لايفارقني ،وحبه الذي يملأ قلبي مثل اعتزازى وفخرى بأخوتك.
أنا برغم المسافات التي تفصلنا لازلت قوية بك ،شامخة بعنفوان ثباتك وإصرار الحبيب ماجد على الشفاء من جرح ساقه والتطلع للعودة إلى بغداد قريبا.
كنت أتمنى أن تكون اليوم معي، وأتمنى أن تعود ونلتقي ثانية.لا بل لتكمل حياتك هنا كما كنت تهوى وتأمل.
لقد أرهقني الغزو وأشعر أني لم أعد أطيق البعد عنك لكني في الوقت عينه أشعر بالفرح لأنك لست هنا ولا تتعرض إلى ما نتعرض إليه نحن من إهانات بسبب مواقفنا الرافضة لوجود المحتل والانزلاق في مسالكه. فمجرد تصور حضور هؤلاء (المحتلين) وأذنابهم إليك أمر يبعث على الاستياء والاشمئزاز.
سأكتب إليك( إيميلا) آخر في ليلة الغد إذا لم يتم اعتقالي هذه الليلة. فلا علم لي متى يأتون ،ولا أحد يعلم متى تبدأ ساعة الصفرعندهم ليبدأوا بالمداهمات. لكنها بالتأكيد تبدأ في أية ساعة من الليل وتنتهي في ساعة أخرى من النهار وقد لاتنتهي لأجل محتوم .
إذا لم أكتب إليك غدا أو بعد غد فأعلم أني اعتقلت . فليس هناك ما يمنعني من كتابة (إيميل) إليك إلا أن أعتقل أو يقع سوء ما يمنعني من الجلوس إلى الحاسبة، فلاشي أحب إلى قلبي من كتابته إليك في (تالي) الليل عندما يعمُ الصمت ويسود السكون ولا يبقى غير أنين القلوب وجزعها ليل نهار، وسماع أصواتكم في روحي وبخاصة صوت حازم ومنار الصغيرة وضحكات هيام بنتك وهيام أختى الرائقة بيننا ..
هل تتذكر أول كلام مشترك بيننا قلناه سوية في الأسابيع الأولى من الغزو؟
:- جاء الطوفان والحريق سيحرق الأخضر واليابس.
لا تقلق سأكون بخير.
تصبح على السعادة والتحرير واللقاء في الوطن الذي أحببته وأحبك بنقاء .





2
عمرى الذى يشرق غير بعيد


منار
سيدة روحى
وطيف كونى الأزرق
كلماتك التى حطت على نافذة حاسوبى وكأنها جناح ملاك ، وحين فضتها يداى تنفضت من قلبى وعقلى الأشواك . فقد كنت أثمن الكتابة المشتركة بالمنتديات الألكترونية التى فتحت بواباتها للشرفاء من أمثال هدى السعدى وحسن برهوم وعز الدين رحومة وكامل أبوعربية وبشرى الناصرى وسلطان النجدى (الإسم الحركى لرفيقنا عبد مهدى المهاجر الى كندا فارا مثلى )– ليس جزعا أو خوفا – لكى لا يمنحهم شرف قتله قبل أن يعمل فيهم روح جهاده من أجل وطنه العراق . كنت أقدر مشاركات كتاباتهم التى تؤازرك أيام اعتقالك ، ولكن كم كنت أشعر بخيبة الكلمات دائما فى هذا الزمن الأمريكى المهووس بالدم ، وكنت أرتد سريعا عن هذه الخواطر الجزعة لأدرك كم كانت لكلماتك من أثرنفاذ فى التحريض والدفع للرفاق من الأخوة الذين انضموا لسرية الشهيد عدنان الجبورى، ومن إرباك لطوابير الأتباع ذيول اليانكى الأمريكى المتسلح برباطة جأش هشة ومصطنعة لأنه يختفى خلف دروع الحديد الواقى من معدات وتكنولوجيا عن بعد، وخيبة قنابلهم الذكية .
واقبلى اعتذارى عن شبهة ارتباك فى قص مايحدث لى هذه الأيام ، فالبعد عنكم، ودمنا الذى ينزف من جراحكم، وأمى التى تنام هى الأخرى بعين مغمضة وعين مفتوحة تنتابها نوبات الربو القاتلة فتنهض منهكة القوى ممتقعة الملامح ، فأسرع أنا بقارورة الدواء ، وأملأ لها ملعقة تضربها بأسنانها وهى تزدرد الدواء مكرهة لحموضة مذاقه، وخالتى التى تعودها فى تلك الليالى الباردة كثيرا ما تؤنبنى وتعنفنى
:- أنت السبب فى إصابة أمك بعدوى الصدر . أنت السبب وذوبان حياتها يتم على يديك. لم لا تراعى ربك فيها وتترك ما تفعله ؟ لِمَ لَم تنظر الى مستقبل أيامك وتتزوج بنهال بنتى كى يرتاح قلب أمك ؟ لِمَ لم تتوقف عن الإنشغال بالسياسة وأفعالها التى لم تجلب لك غير التشرد فى بلاد الله ومرض أمك وغضب الحكام هنا فى مصر عليك؟ ،فى الصباح قالت لى أمك
-: ياحميدة أنا إن مت فسأموت وأنا حاملة هم حسن. حسن غلبان ياحميدة وليس له سند فى الدنيا إلا أنت وعيالك، وبكت خالتى . ليس من أجل أمى وإشفاقا عليها من آلام صدرها ، ولكن لأنى أوقفت سوق إبنتها نهال منذ سنوات بعيدة ، وقد كانت بضاعة رائجة بالعائلة وخارجها، وبرغم أنها تزوجت وأنجبت وصارت جدة الآن إلا أن خالتى مازالت تحمل ذكرى أمنياتها القديمة بزواجها منى.
كنت أستمع لها بنصف رأس ، ونصفها الآخر معك. رسالتك القصيرة على هاتفى المحمول ليلة الأمس التى توصينى بصديقتك رنا القادمة إلى القاهرة هربا من جحيم عربى آخر بعمان . لقد رفضوا إعطاءها تأشيرة إقامة جديدة لمدة ثلاثة أشهرإلا بعد خروجها من عمان الأردنية إلى أى عمان أخرى والعودة
أى بشر هؤلاء؟
ولكنى لم أفكر بالأمر كثيرا ، لأنى عازم على السفر لها غدا إلى القاهرة بعدما نجحت فى العثور عليها شريدة عن طريق هاتفها الجوال الذى تضمنت رسالتك رقمه ، ولكن . تخيلى ؟
صرت حذرا من الذهاب للقاهرة كثيرا. فهى مدينة تقهر حتى العمالقة أنفسهم لحضورها فيهم . إلا أنى أسير هواها أنا الآخردائما. برغم الحذر من التواجد بها هذه الأيام . فالطريق الذى أسلكه دوما بدءا من ميدان رمسيس أو من محطة المترو به المسماة باسم الحاكم الحالى ، وما أثقل وقعها على قلبى تلك المحطة بسبب هذا الإسم ، ويحزننى دوما أن تكون إحدى محطات المترو المنزوية بعدها مسماة بإسم أحد أبرز زعمائها فى القرون الأخيرة .
هذا الطريق كثيرا ما تنتظم به تظاهرات احتجاج على استعمار الخارج واستغلال الداخل ، وكثيرا ما ألقى القبض على بهذا الشارع وعلى كثيرين غيرى، وكثيرا ما شجت رأسى وسال دم من جبهتى نتيجة صداماتنا الدائمة مع الشرطة ورجالها المساكين والمسلطين بإكراه لقمع إخوانهم الرافضين من أمثالى . تلك التعديلات الدستورية التى يروج لها هؤلاء الذين نموا حول عنق هذا النظام كفطر سام ، لأن وجودهم وبقاءهم مرتبط بوجود وبقاء هذا النظام ، ولابد من استبقاء من يخلفه من ذريته عن طريق هذا الدستور الذى صار لعبة هزيلة فى أيدى هؤلاء .
منار.
يازهرتى التى تتضوع فى شرفة القلب المعتصر
بى رغبة أن أحكى لك عن طرفة خاطفة وقعت لى أثناء آخر تظاهرة من تلك التظاهرات التى أعدتها جماعة منا أطلقنا على أنفسنا (ك . ف مع التغيير وضد التوريث )، لكنى سأرجىء الأمر إلى حين ، فأنا مشغول بهاديا شقيقتك وبتوقفها عن العمل بدراستها للدكتوراة لموضوع الفعل المقاوم فى الأدب العربى الحديث . الرواية نموذجا ،وأنى أمددتها بدراسة هامة عن فعل المقاومة فى الأدب العربى الفلسطينى، بالرغم من أنها اعترضت على خلاصتى الأخيرة فى البحث من أن ( كل الأدب أقل أهمية من قطرة دم )
فاليوم صباحا تلقيت رسالة من صديقتى العزيزة لطفية الدليمى ، أرسل لك نصها لتدركى كم أنا مبتئس طوال هذا النهار من أجلها؟ ولطول تحديقى فى الفضائيات ومواقع الإنترنت وتقارير وكالات الأنباء فى أحوال العراق التى تحرق الفؤاد ليل نهار، ومن محادثة الأصدقاء عبر (الماسينجر) وتبادل اللوعات والأسى المشترك لعجزنا عن فعل شىء.
أى شىء.
(( الأخ الفاضل الاستاذ/
ألف تحية واعتذار وكل المحبة والاعتزاز
قد تراني مقصرة في التواصل ولكن أرجو ان تتلمس لي الأعذار أخي الأعز , لأن وقتي هنا محكوم بعوامل عدة
منها أنني لاأملك أنترنيت في الفندق وعليّ أن أذهب إلىأحد مقاهي الإنترنيت للعمل على اللاب توب،والذي ينفذ شحن بطاريته في أقل من ساعة ولاأستطيع إلا إنجاز بعض الاتصالات وإرسال بعض الرسائل لإبنتي والأولاد
أنا الان باقية إلى أمد قد يطول في باريس وأحاول إيجاد منفذ لي هنا,
في سوريا والأردن بدأوا حصارامشينا على العراقيين
تصورأن الذين منحوا إقامات سنوية في الأردن لأنهم مستثمرين ورجال أعمال - مثل زوج ابنتي - قد لايجددوا إقامتهم ثانية
وهم يفكرون الآن بالهجرة إلى السويد أو استراليا بعد أن اشتروا شقة في عمان واستقرت أعمالهم فيها .
والبلد موغل في الكارثة وجنون الإقتتال والدم طال كل شيء ولأامل لنا في العودة قريبا إلى بغداد
ولعل المتطرفين من الجهات كلها قد استولوا على بيوتنا المهجورة , مثلما استولى الأمريكان على كل الوطن
مرارتي أكبر من قدرتي على التعبير , وأنا في هذا العمر والإنجاز والتاريخ المثقل بالألم أجازف بالتغرب
وأعيش في وحشة المدن الباردة ،ولا بلد عربيا يستضيفنا. مايخفف مذاق المرارة أننى بدأت عملا روائيا كبيرا سيكون شهادة روائية عما جرى ويجري في العراق .
أتمنى أخي الفاضل أن تتمتع بالصحة والإبداع والعائلة الكريمة كلها بخير وسلام وأن يتم شفاء إبنك العزيز
أختك لطفية الدليمي
هذه هى لطفية الرائعة التى استضافتنا كثيرا وطويلاوقت أن شردنا السادات ونظامه المتوحش فى بقاع الأرض ، وكان أزلامه يطاردوننا حتى فى بغداد التى فتحت قوارير محبتها لى ولغيرى على بوابة الجامعة المستنصرية ، وأدخلتنا إلى حدائق حدبها وأمنها ، أحببتها وصرت لصيقا بها وكأنها روحى التى أمشى بها تخافين أنت فيها الآن ؟
ماهذا الذى صار؟
أى ريح مسمومة هبت عليك بغداد وحاولت أن تضرب خيام كينونتك ، ثمارك أيتها النخلة المغروسة جذورها فى شرايينها؟
الليلة سيتصل بى عبد مهدى ليطلعنى على أحوال ابتسام وخديجة وكامل أبو عربية ، وإن كانوا قد وصلوا إلى زيورخ أم لا، وإن كانت زينب سلمان المبتئسة دوما قد استقبلتهم فعلا
زينب قبل أيام قالت لى فى اتصال هاتفى أنها دبرت عملا محترما لابتسام فى محل الحلاقة التى تديره،وأرسلت صورا لها فى عملها الجديد وباليونفورم
ليتنى بالفعل أستطيع العودة إليك برغم أوحال الطريق وأشواكه
كنت أقرأ رسائل التضامن معك وأنت بأيديهم القذرة فى الإعتقال المهين لكرامة العراقى . بل والعربى وأقول دوما :
:- إن كلماتك التى تسرح فى الشجن والحزن العراقى القدرى الموروث أتت ثمارها ، وكأنهم لم يكتشفوا حقيقتهم إلا بعد مواجهتك الشجاعة بعد أن اعتقلوك ، فانبرت أقلامهم تضيف إلى صفاتك التى أصرخ من شدة فرحى بها ـ أنك أخت الرجال . فعلا . كنت دوما فى السراء والضراء أخت رجال.
يا ألله منار
كم أنت فى الجغرافيا المغروسة فى دمى تشتعلين بالشوق ، وكم أنا فى الجغرافيا التواقة لاحتضانك أموج بالهوى والتطلع إلى ابتسامتك الراضية عن عراقك الذى كان، وعراقى الذى حفظ لى حياتى وكرامتى، وبه كتبت زوجتى والأولاد سطور تألقهم به وبكل شوارع بغداد
أكتب لك وقد قارب النهار على المجىء ، وهاهى قناة الجزيرة تنهى أول نشرات هذا الصباح بخبر اللحم العراقى المشوى فى نار الفتنة ، وأمى تصيح من صوت مرتد إلى عمقها الضعيف الذى خذله داء الصدر لتوقظ أختها النائمة على سرير مقابل ، أمى التى طال اشتياقها لحضورك ورؤيتك . قالت لى ذات نهار.
:- أخشى أن أموت ولا أرى أحدا من الأسرة التى علق قلبى بها ، وخاصة منار التى هى زهرتهم ، ، والتى صانك وأسرتك أهلها ، والتى كانت أمها أما لك هناك وجدة ثانية لأولادك.
أمى تخشى الرحيل قبل أن تكتحل عينيها بالنظر إلى وجهك العراقى المستدير ، وثمار قلبك العراقى الذى يطرح ابتسامات رائعة
أنا منتظر رسالة بريدية أو اتصال هاتفى من زينب سلمان فى زيورخ تطمئننى على وصول بقية الأحبة إليها، وأن ترسل الأموال الموصى بها من عندها، وكما تعهدت .
وحتما سأخبرك فى الحال لوكانت نافذة بريدك مضاءة وهو أمر متروك للكهرباء العزيزة المنال منذ الاحتلال فاسلمى لى ومن أجلى حتى أوافيك بالجديد.
على فكرة أعذرينى على رفض محاولتك المتكررة ليلة الأمس الحديث معك عبر المايك ، لأن المايك عندى أصلا قد خرب ، وكنت اشتريته حديثا ، وهذه طبيعة كل السلع المجهولة الهوية والمصدر التى تغمر أسواق المحروسة هذه السنوات العجاف ،ولكنى سأحاول شراء غيره قريبا



3
شيوخة أزاهير القلب


حسن الغالى
كأنّ أحدهم بل جميعهم يغرس سكينا في صدري ويذبحني من وريد إلى وريد.
رؤية هؤلاء (الأمريكان ) يسبب لي صداعا وألما في الرأس لا أبرأ منه إلا حين يصل إلى مسامعي صوت انفجار قذيفة هاوون أو عبوة ناسفة تحرق أشلاءهم وتحيل أجسادهم إلى رماد .
أنا حديقة كستها الأشواك،ولم أعد سنادين للزهر الأبيض ولا حتى البنفسج والريحان.
القلب في جسدي شاخ قرنا بعد الغزو وتملحت الكلمات في فمي. فلم أعد أملك قرارا لشيء، مآسي الغزو ومنغصاته تدفعنى إلى الشيخوخة .
كم أحمل من الكراهية لهؤلاء الغزاة ياحسن وأتمنى زوالهم من الأرض،إنهم سبب تعاستنا وسبب اصفرار الورود في بغداد التي كانت عصية على الشيخوخة والدمار.
استغربت حين سألتني عن أحوالها بعد رحيلك المفاجئ عنها، هل بقيت كما هي جميلة أثيرة تأسر القلوب وتجذب الألباب إليها ؟ وما مدى صحة ما تنقله وسائل الإعلام عنها من أنها استحالت إلى مدينة أشباح هجرها ساكنوها وأصبحوا لاجئين في أنحاء المعمورة يشحذون هبات الدول وعطاياهم ؟
بغداد ياحسن أصبحت عصّية على وصف حالها وأحوالها، ماذا يمكن لأقلامنا أن تكتب وتخطٌ عن جرحها ونزيفها اليومي؟
ماذا يمكن أن تنقل أقلامنا من مشاهد شقاء هذه الأسطورة التي أذهلت العالم برمته قرونا وعهودا طوال ؟ .
كيف يمكننا أن نصف حجم الدمار الذي لحق بها،كيف تطاوعنا ألسنتنا وقلوبنا وأقلامنا أن نخبر محبى بغداد وعشاقها من أنها أضحت من أجل سواد عيون الديمقراطية البشعة والفوضى الخلاقة ، ونقاء العالم من أسلحة الدمار والديكتاتورية مدينة مظلمة تنقصها تألقاتها المعتادة والمسرة والخدمات والرعاية؟
إنها مثل الطفل ومثل الورد ومثل الضرير والأصم تحتاج إلى عناية فائقة ، عناية خاصة لايمكن لكل من هبّ ودبّ أن يمنحها لها .
بغداد السندباد البحري تصاب بالشيخوخة المبكرة وتفقد سنوات شبابها وزهوها ، تتحول إلى بغداد ترقد في شوارعها جثثا تائهة تحنّ إلى ذويها وتبحث عن حفرة ترقد فيها بسلام بعد أن هشمت ما فيها من عظام وحياة ،وتمزقت ما فيها من روح( بالدريل )وأحرقت( بالتيزاب).
لاتبتئس أيها الحسن الحساس جدا والقلق جدا فأمريكا الديمقراطية جدا جلبت لنا وسائل متطورة ومبتكرة في ممارسة القتل بطريقة ديمقراطية جدا.
في بغداد الألق وليس سواها تستطيع أن تختار الوسيلة الجميلة التي تناسب ذوقك ومزاجك في الموت الأبدي .
جارتي سلمى ياحسن وصديقة عمري أظنك تذكرها،أم تود تذكيرك؟ ههههه . أشعر بتعبيرات وجهك تبتئس وتنزعج ، لا تغضب ، سلمى ياحسن تمنت أن تعثر ولو على إصبع من أصابع إبنها المفقود منذ عامين ونصف العام ،ونذرت أن تفرش العلم العراقي بطول الجسد لو تحقق حلمها واستردت عضوا من أعضاء إبنها . فقد أرهقها البحث المضني والإنتظار المؤلم والشوق والأسئلة التي تلحّ على الظهور بين الحين والآخر . لم أسمته عمرا ؟ وفي غمرة أحزانها وآلامها لم تنس أن تقصد دائرة النفوس في المدينة وتقدم طلبات بتغيير أسماء ما تبقى من أولادها أحياء . عثمان صار لبيب، مروان صار يونس ، وزينب صارت رباب.
ربما ستأخذك الدهشة والعجب مما أكتب لك في (إيميل) هذه الليلة ، وستقول إن الاعتقال قد أثرّ عليها وصارت تهذي ولاتعي بما تكتب. فكيف يمكن لأم أن ٌتغير أسماء أولادها دفعة واحدة ، وما علاقة الأسماء بالموت والقتل؟، وسأعذرك لأنك شهدت السنة الأولى لاحتلال بغداد وغادرت بعدها عائدا إلى وطنك مصر أم الدنيا بعد أن ضاقت بك بغداد بشناشيلها وأسواقها ومنازلها وشوارعها وأزقتها شأنك شأن كل المواطنيين العرب الذي كانوا يقصدون بغداد ويهلونّ في مرابعها عندما تضيق بهم أوطانهم ، ولم تكن أمريكا قد نفذت مخطط القتال الطائفي في العراق ولم يكن يدري (عمر) أنه سيقتل على يد (عبد الزهرة) ، ولم تكن زينب تدري أنها ستبقى عانس إلى أن يتقدم بكر ويخطبها من أبيها.، ولم يكن ماجد يتصور حاله مغادرا بغداد مصابا متخفيا ، وحازم لم يستكمل علاجه خارج العراق الذى كان قد وعد به من ذوى الاختصاص والنفوذ.
سررت وزحف الشوق إلى قلبي زحفا حين اطلعت في( إيميلك) السابق لي على رسالة الصديقة العزيزة لطفية الدليمي وانتشيتٌ من نبأ مغادرتها إلى باريس وتخليها عن نشاطاتها الثقافية والإبداعية في بغداد فقد كنت خائفة أن تفقد ساحة الإبداع العراقي مثقفة رائعة مثل لطفية ، كما فقدت العشرات من الصحفيين والمبدعين. فإسمها ورد ضمن قائمة الاغتيالات التي أصدرتها فرق الموت مع المئات من المثقفين ورجال الفكر والعلم والأكاديميين ،وطبيعي جدا أن أكون مدرجة ضمن هذه القائمة التي قاموا بنشرها في مواقع الإنترنيت واطلع عليها الكثيرون حتى وصلت ضجتها لوالدتي المريضة وخالاتي، وأصبحت مثار الخوف والقلق لهن ،و لا أخفيك أن ثمة قائمة ورد بها إسمك مع أسماء عربية كانت تشارك فى نهضة الفكرالعربى والفنون والإبداع هنا على أرض الرافدين،.
يصعب علي مغادرة البيت دون أن تبادر إحداهنّ في الاتصال بي عشرات المرات .
أين أنت؟،لاتتأخري،لاتستقلي سيارة بمفردك، لاتردي على أرقام غريبة تجهلين أصحابها.ولو كنت موجودا أنت الآخر لقتلوك لأنك تعشق العراق أكثر منهم ، هم ليسوا عشاقها . بل أنت ، أما هم فليسوا الا لصوص الليل الأمريكى الخانق وأعداء الحياة ، ومن يدرى . فربما يرد إسمك علنا فى القوائم التالية التى يطلقونها فى مواقعهم المرعبة.
قلق لطفية في الغربة على مصائر أبنائها وأسرتها قلق طبيعي جدا، فالقلق بعد الغزو الأميركي صار رفيقا مصاحبا لكل من لايسير في ركاب المحتل وينضم إلى قوافله.
ياحسن إن الابتعاد عن الوطن والغربة مذلةّ ّوإهانة تورث صاحبها الهلاك ، لطفية تفكر في تشجيع أولادها على طلب اللجوء إلى ألمانيا وسويسرا وهي الظاهرة المستشرية الآن بكثرة. فحكومة جلبها المحتل لن تكون قادرة على توفير الأمن والحماية لا لنفسها ولا لشعبها.
قبل إن أنسى عزيزي ، وصلني (إيميل) مقتضب من زينب سلمان تقول فيه إنها استقبلت خديجة في بيتها ووجدت لها عملا يدر عليها مالا وإن كان قليلا إلا أنه يساعدها على العيش في زيورخ بأمان ،وأنا بصدد مفاتحتها باستقبال محمد وزوجتة سعاد اللذين هربا أيضا من الجحيم وبنصيحة مني قررا اللجوء إلى زيورخ ، فهي المدينة التي حضرتني ما إن بلغني قرار سفرهما المفاجئ إلى دمشق، ومن هناك يقرران طلب اللجوء إلى السويد إذا لم تتمكن زينب من إبداء المساعدة لهما .
هل كان لك اتصال قريب مع الدكتور فاهم في ليبيا، حاولت الإتصال به فلم أفلح، شبكة المحمول عندنا لم تعد صالحة للتغطية الجيدة ،إنقطع اتصالهم عني منذ فترة، فلم أتمكن من الاتصال برباب زوجته ولا أميرة ابنتهما ، فإذا اتصلوا بك أو اتصلت بهم حاول أن تخبرهم بضرورة الإتصال بي أو تنقل لهم هذه المعلومة. فبيتهم في منطقة الكرادة والذي قاموا بتأجيره ليستفيدوا من إيجاره في الغربة قد غادره المؤجر دون أن يتمكن من تسديد إيجار هذا الشهر لكونه تعرض إلى تهديد بوجوب مغادرة البيت دون نقل ما فيه من أثاث بسبب انتمائه المذهبي ، لم يتمكن الجيران الآخرين في المنطقة من إقناع المؤجر في البقاء وعدم إيلاء اهتمام لورقة التهديد التي ألقيت إلى البيت ووجدوا نسخة منها معلقة على أحد الأبواب الداخلية للمنزل مما اضطره أن يترك المنزل ويغادره إلى إحدى المدن المجاورة للعاصمة
وهذا الموضوع شغلني جدا ، حاولت الاتصال بالأصدقاء هناك لتوفير مؤجر جديد ولكن محاولاتي باءت بالفشل لعدم توفر مؤجرين للمنازل الخاوية التي أصبحت كثيرة جدا بسبب الهجرة اليومية المتواصلة وبسرعة ملحوظة جدا ، تملكني الخوف والقلق على مصير الدكتور فاهم وأسرته وهل سيتمكنون من معالجة الخلل في الميزانية والنقص الحاصل الباهظ جدا بما يقدر ب 800 دولاركل شهر
معذرة حسن ..
إنك برغم كل شىء ترسم صورة مشرقة وبراقة وأنا أعطيك صورة قاتمة عن ما آل إليه وضعنا في بغداد بعد مرور سنتين على رحيلك ، هناك أمور كثيرة طرأت على حياتنا لم تكن موجودة في السنة الأولى من الغزو وقد أعلمتك عنها مسبقا ، الوضع تدهور بسبب محاولة الغزاة ومن سار في ركابهم ممن جاءوا من بلاد فارس وأضرموا نار الفتنة الطائفية والحرب الأهلية،وهذه هي أخطر مرحلة من مخططات الغزاة الذين يرومون تنفيذها في بغداد ، لكني أؤكد لك ولكل الأصدقاء المثقفين الذي يراسلوني ب (الإيميل) ويأملون منى الحصول على الحقيقة دون لبس والاطمئنان على وضعنا . أؤكد لكم أن هذا المخطط لن ينجح برغم المحاولات والجهد الكبير الذي يبذل والأموال الطائلة التي تنفق ، وأؤكد لكم أن ما يحدث في بغداد لادخل لنا نحن الشعب به وإنما هي أفعال شنيعة تمارسها فرق الموت والمليشيات التابعة للحكومة التي نصبها المحتل .
لازالت صداقتي متينة وقوية مع الكثير من المثقفين من شتى المذاهب ، رعد الأشوري وتوفيق المسيحي وآراس المثقف الكردي الرائع من الشمال ، وإيناس القاصة الشيعية الرائعة .حتى زينب المغادرة كانت شيعية سنية فى آن واحد . أم شيعية وأب سنى .
أتصل بهم ونتبادل( الإيميلات) و(المسجات)على (الموبايل) وأتابع كتاباتهم وشطحات خيالهم على مواقع الشبكة العنكبوتية ويأتون لزيارتي
إطمئن -أيها الحسن العربي - فإن كان العدو تسلل إلى عقول بعض الأميين والجهلة فلازال المثقف العراقي بخير رغم كثرة الأهوال.
آمل أن لاتفوتني فرصة أن أجيبك عن كل التساؤلات التي تدور في رأسك ، وتنقر تلابيب الدماغ بإلحاح ، أدرك أن طبعك ناري وأنت من برج القلق ، إطمئن ، أحاول تدبير أموري، وآمل أن لا أقع في قبضتهم مرة ثالثة ، جرت مداهمات وتمكنوا من اعتقال الكثير من الشباب ولا نعرف متى سيتم الإفراج عنهم ، تم اعتقال باسل إبن صديقك الأستاذ فؤاد وهو مشغول بإجراء محاولات للإفراج عنه عن طريق بعض المعارف من أهل المنطقة والذين يعملون مع القوات الأمنية الحكومية ..
قلقي ينمو،ويتصاعد على مصير شقيقي صهيب الذي اعتقل بعد سنة من رحيلكم عن بغداد وفي أخر رسالة وردت منه عبر الصليب الأحمر الدولي كان يتساءل
:- هل لازلت على الاتصال بكم عبر (الإنترنيت؟).
لقد أبهجتنى رسالته هذه والتي تعتبر الأولى منذ اعتقاله، ويستفسر عن وضع صديقه ماجد ويتمنى لو أنه لم يرحل وبقي في بغداد يعملان سويا ويقاومان معا هذا العدو الجاثم على صدرنا جميعا.. أنت تعرف ياحسن أن صهيب وماجد كانا منذ صغرهما ومن المدرسة الابتدائية ، وحتى انتهاء مراحل الدراسة الجامعية معا إلى أن تخرجا وجمعتهم (مجموعة الشهيد سعد إدريس حلاوة ) أيضا بناء على اقتراح ماجد ، وتكريما لمصرى شاب احتج على سياسة حاكم عربى رمى شرفه تحت أقدام الصهاينة ، لقد كنت أشعر بحزن صهيب إبان فترة رحيلكم عن بغداد بعد تلك الحادثة المشؤومة التى أصيب فيها ماجد
لقد قال لي ذات ليلة وكان يتهيأ مع رعد ومجموعة أخرى من شباب الكرادة
:- إن وجود ماجد معنا كان ضروريا جدا، فهو يمتلك عقلية تخطيط عسكرية جيدة وكان ينجز زرع الألغام بدقة متناهية لم يفشل يوما ما .
أصدقك القول ياعزيزي فلولا حادثة اختطاف إبنك الأخر حازم المريض ، وحين لم يراعوا خلقا ولا ضميرا أمام مرضه وعلته الدائمة، ودفع تلك الفدية المالية الكبيرة لتلك العصابة المجرمة التي حاولت النيل من مكانتك الاجتماعية والثقافية في بغداد ، لما كنا قد سمحنا لك بمغادرة بغداد ،ولكنت تقاسمت رغيف الخبز معنا كما كنا نفعل قبل الغزو ، لكننا خشينا على وضعك النفسي السيئ ولاسيما أن صحتك كانت تتدهور،وخشينا أن تتكرر الحالة في الوقت الذي كانت حوادث اختطاف المثقفين والعلماء والأكاديميين قد بدأت تظهر للعيان ، كنت أعلم أنك لن تتردد في الذهاب إلى دار السينما والمسرح في الصالحية للمشاركة في تقديم عمل مسرحي كنت قد أنجزته، أو الإعداد لعمل مسرحي كبير كان يراود ذهنك المسرحي العبقري فى مسرح الجامعة المستنصرية ، لكن الظروف الأمنية في العراق بعد الغزو لم تكن تشجع على الإبداع ، أو العمل اليومي، فلم تكن تستطيع الوصول إلى أي مكان إلا وأنت تبلع المرّ ، لازال الوضع في بغداد مثلما تركته قبل عامين من الآن بل صار أسوأ،الحواجز الكونكريتية والجدران الإسمنتية قد كثرت أعدادها بشكل لايطاق ، وزاد على ذلك كثرة الدوريات والمفارز على الطرقات ، تصور إني لم أعد أطيق الذهاب إلى المدرسة ، بل إني كرهت مهنة التدريس التي كنت أحبها جدا ، ولولا المعيشة الصعبة والراتب القليل الذي يسد جزءا من نفقات الحياة اليومية لكنت قد قدمت استقالتي وفضلت المكوث في البيت ، لكني اضطررت إلى إيجاد عمل آخر يوفر لي مصاريف إضافية لإعالة أسرة صهيب التي فقدت معيلها الوحيد بعد اعتقاله، واضطرت لتحمل نفقات معيشة زوجته وأطفاله الأربع ممن لايتجاوزعمر أكبرهم خمس سنوات ، عملت مصححة لغوية في إحدى الصحف العراقية التي تشكلت بعد الغزو لكوني اختصاص لغة عربية ، ولانبهار رئيس التحرير بعملي الدؤوب منحني فرصة عمل آخر وهو محررة أدبية مما أعطاني فرصة الإطلاع على الوضع الثقافي في البلد والتعرف على أدباء وشعراء كثيرين كنت أقرأ عنهم في الصحف فقط ، ومنهم عرفت قدرك الأدبى والثقافى فى الفضاء العربي، لاأخفيك سرا أني أفكر في تقديم استقالتي من مهنة التدريس والتفرغ للعمل الأدبي والصحفي،لكني أنتظر إطلاق سراح صهيب من المعتقل ليتحمل إعالة أسرته ، وأفكر أيضا في الاستغناء عن التدريس في المدرسة والجلوس في البيت وإعطاء دروس خصوصية للطالبات ، هناك ميل من الآباء للاعتماد على التدريس الخصوصي ، فالمدرسة صارت غير ذات جدوى بسبب كثرة التعطل وصعوبة الوصول إليها ، هم يفضلون التدريس الخصوصي لأبنائهم وبناتهم تماما كما كنت تفعل أنت مع ابنتيك منار وهيام ،أنت تعلم خبرتي في التدريس قد تجاوزت إثنى عشر عاما تمكنت فيه من تدريس أعدادا كبيرة جدا من طالبات الكرادة واليرموك وطالبات يأتين لي من مختلف المناطق ،هذا إبن صديق صهيب، وتلك صديقة هيام أختي ..
عزيزي حسن
أكتب لي سريعا في (الإيميل) القادم عن تحسنّ صحة ابنك ماجد، لقد ألحّ صهيب في رسالته تلك بالاستفسار عن وضعه ، وهل تحسنّت صحته بعد تلك الإصابة البليغة التي تعرض لها عند مشاركته مع صهيب في عملية مسلحة ضد الأمريكان ، والتي أسفرت عن إصابته بطلق ناري في الساق اليسرى ونزف على أثرها ساعات طويلة لعدم تمكننا من معالجته في المستشفى خوفا من تسليمه للقوات الأميركية التي راحت تبحث عنه في أقسام المستشفيات كافة؟ ولولا تدخل الدكتور فاهم وموافقته على إجراء جراحة سريعة لإخراج الرصاص من قدمه لكان ماجد في عداد الشهداء ، أخبرني عن وضعه النفسي وهل لازال يرغب فى العودة إلى بغداد للمشاركة مجددا في عمليات مقاومة لوجودهم ؟،
يقول صهيب متمنيا :
:- عندما يتم أطلاق سراحي ، سأعاود الاتصال بماجد وأوفر له طريقا للعودة إلى بغداد ، أنا لاأستطيع أن أستغني عنه، إنه صديق عمري وأخي، وهو يبلغك السلام والتحيات ، ويقول إن صديقه عماد المصري اتصل به قبل اعتقاله بيومين وأبلغه أنك أرسلت معه أثناء سفره ، لزيارة أسرته في الفيوم مبلغا من المال، ليتم توزيعه على بعض الشباب ، لشراء ما تحتاجون له ويعتذر إن كان المال ضئيلا لكن هذا ما تمكن من جمعه من مصاريف العائلة التي أصبحت باهظة جدا فالوضع الاقتصادي في مصر متدهور أيضا ومع ذلك سيفعل ما بوسعه لإرسال ما يتمكن من إرساله لكم لدعم أعمال المقاومة المسلحة ضد الأمريكان برغم أنها كقشة فى محيط. ومسألة توصيلها شاقة وعسيرة.
وأخيرا ياحسن .
سأختم (إيميل) هذه الليلة النيساني لك بأمنيات عودة نيسان إلى سابق عهده ،شهرا للخير والربيع وتنظيم الاحتفالات بالمناسبات الوطنية والقومية فيها ، فهو لم يعد مناسبة فرح ، وبعد أيام قليلة جدا ، ستمر علينا الذكرى الرابعة للغزو ، التاسع من نيسان المشؤوم ، هل تتذكر هذا اليوم الملعون ، لأاعتقد أنك تنساه ولا أي عقل بشري سيكون قادرا على أن يشطب ويحذف من ذاكرته هذا اليوم النيساني المروع ولا كل الأيام الآتية من بعده والحافلة بالمآسي والدمار والموت البشع
سأنصرف الآن. فالمطر زاد من نقره على زجاج الغرفة ولا أرغب أن تفوتني مشاهدة مطر غزير يتساقط وينقر حباته زجاج النوافذ، ولن أجعل النسيم البارد يرحل دون أن أملأ صدري من قطراته. فلن أخفيك سرا ،أشعر بأني مختنقة وأحتاج إلى تغيير هواء رئتي. فلم نعد نتنسم هواء نقيا بل هواء مشبعا برائحة الجثث المتعفنة ورائحة القنابل والغازات السامة.
قبلات أمي الحنونة ودعواتها لك بالعودة القريبة لبغداد التي تحبها وقضيت فيها شطرا من حياتك إبان نضالك الدؤوب في مصر، وتردد دائما أن أبواب بيوتنا ستبقى مفتوحة ولن نوصدها أمام الرافضين لسياسات حكوماتهم، ولكل من يساندنا في قضيتنا بنضالنا لتحرير بغدادنا وموصلنا وديالتنا وكل شبر أخضر وبقعة خضراء من أرض العرب بغداد.


إنه القلق الذى يجلبه الرعب ياحسن

حسن
لم تفعلها سابقا وأشك أنك ستفعلها الآن أو مستقبلا.
لا أظنك تتجاهل( إيميلا ) لي أو تهمله ، لكن بالإمكان تصور أنك شطبت (إيميلي) إليك سهوا بعد أن تكدست( إيميلات ) كثيرة في صندوق بريدك.
لكن حتى هذه أستبعدها ،أنا واثقة أن(إيميلاتي) ليست مثل كل (الإيميلات) ، هكذا يتراءى لي أنك لن تهمل أية (إيميل) ترد إليك من بغداد المجروحة ، المكلومة ،أستغرب عزيزي ، لم تفعلها مع المئات من (الإيميلات) التي نشأت بيننا منذ رحيلك عن بغداد وكانت هى التسلية الوحيدة لنا والطريقة التي تمكننا من التواصل والإطلاع على أحوال بعضنا بها .
عشرون ليلة تنصرم منذ كتابتي آخر( إيميل)، وكنت قد ألححت عليك بالرد السريع لأتمكن من إجابة شقيقي صهيب المعتقل في سجن بوكا والذي استفسر عن صحة صديق عمره ماجد ، أضطررت أن أكتب له رسالة وأبعثها عن طريق الصليب الأحمر دون أن أتناول شيئا عن أوضاع ماجد ، لكني أخبرته أنه تماثل للشفاء وسيتجشم عناء السفر إلى بغداد بعد الإفراج عنك لو كان الأمر ميسورا.
أتابع صندوق بريدي مرات عدة في اليوم الواحد أملا في استلام( إيميل) منك ، لاأخفيك سرا أن قلقي بدأ يتصاعد عليك وأخشى أن تكون قد تعرضت لسوء ما و قلبى يحدثنى بذلك والله ، عندما تتلقى (إيميلي) هذا أرجوك أن تجيب ولو بكلمة مقتضبة . (استلمت) مثلا وستجيب لاحقا عندما تفرغ من ما يشغلك .
اللعنة على هذا الاستعمار الجديد الذي بدأ يهدد حياتنا ، نعم ياحسن ، أنا مستعمرة من قبل هذا القلق اللعين الذي صار يخيم ّ على وضعي ، تصور أن وقوف شرطي على الباب صار يسبب لي الصداع ، وسماع نقير آلياتهم وهي تمر متسللة مذعورة يصيبني بالقرف والإشمئزاز ، تأخر أحد الأولاد عن المنزل يؤدي بي إلى الآلام في الرأس والمعدة والمفاصل . تصور أن خروج أحد أولاد أشقائي من الدار دون إخبار والدته قلب البيت رأسا على عقب ؟ فقد تبادر إلى ذهن أمه أنه اختطف ، وتصورت أنها ستعثر على رأسه في القمامة تماما كما تشاهد لقطات من أفلام تعرضها محطات التلفاز، وتخيلت أن فلذة كبدها ملفوفا بقطعة القماش الأبيض ويرقد الآن مع عشرات الجثث ممن اختطفت بالطريقة ذاتها ، ولم تكن قد مضت على اختفائه أكثر من نصف ساعة .
لست أدري كيف نسيت أن أدون رقم المحمول عندي فالهاتف الأرضي الذي أعطيته لي لايرد وهو يزيد من شعوري بالخوف عليك .
قبل ساعة من كتابة هذا (الإيميل) لك ، سمعنا دوي انفجار قوي هز البيت برمته ، ظلت الصغيرة سحر تبكي قرابة ساعة ولم تهدأ إلا بعد أن اقتحم عينيها الوسن ونامت على مرفق ذراعي ، ورد ت إلينا أخبارا بأن سيارة مفخخة انفجرت قرب أحد مفارز الشرطة ، وأسفرالإنفجار عن موت ثلاثة أشخاص وإصابة عشرة آخرين تم نقلهم إلى المستشفى، وطوقت أرتال قوات الاحتلال منطقة الإنفجار وربما ستقوم بمداهمة بيوت ومحلات قريبة من موقعه.
أخيرا وليس آخرا ، أتساءل هل شاركت في مؤتمر دعم المقاومة العراقية الذي نظم منتصف نيسان /إبريل والذى لم أتمكن من حضوره رغم توجيه دعوة رسمية لي من قبل اللجنة المعدة للمؤتمر ؟ ، كنت منشغلة في مجلس العزاء المقام على روح أحد أقاربي والذي اغتيل أثناء عودته من بغداد متجها نحو كركوك المدينة التي تشتعل فيها الصراعات الطائفية والانقسامات المذهبية بسبب البترول الذي تحول إلى نقمة بعدأ ن كان طوال العهود الماضية نعمة تجلب الرخاء والعزة لسكانها المتوحدين .
لقد سررت بهذا المؤتمر ياحسن وأنا أستمع إلى هتافات أبناء مصر الحبيبة وهم ينادون بخروج قوات الإحتلال من العراق وإقامة نظام وطني ، ووقف نزيف الدم العراقي الذي صار يطال العراقيين على الهوية.
انتظر( إيميلا) منك بلهفة ..
بالله عليك لا تطل الغيبة



5

على مهلك علينا شوية


دفانا الحنين فى ليل الشتا
ونسمة الهوا الطرية فى عز الصيف
ست منار أو( تانت ) منار زى ماكنتى تحبى أناديكى
وسامحينى أول مرة مش هاقول لك (تانت ) منار
لأننا من عشرين يوم واحنا ماسكين قلوبنا بإيدينا
وانا عارفة إنك الآن وفورا ستخمنى نوع اللى حصل لينا لإنك بتقولى إنك أحيانا كتيرة بتتابعى أحداث الدنيا من خلال الفضائيات وخاصة الجزيرة.
وأكيد إنتى سمعتى عن الأحداث اللى حصلت فى شارع الجلاء وف ميدان التحرير بالقاهرة
أكيد عرفتى أنا مين أولا؟
............؟
صح
انا منار الصغيرة

سامعاك بتزعقى وتقولى زى زماااان
: - مناااااااااااااااااار قطتى الشقية؟
صحيح أنا عندى عشرين سنة زى ما حضرتك عارفة ، لكنهم لسه مصرين على إنى منار الصغيرة وأنا باحتج كتير عليهم ، وباقول لهم أنا مش أقل من ( تانت ) منار هناك فى بغداد ، وشايلة المسؤولية بجد معاكم ، فليه مصرين على إنى صغيرة لسه؟ ، يمكن عشان تفضلى إنتى كبيرة فى نظرهم وعالية المقام على طول ؟
المهم
بابا إعتقلوه من شارع القصر العينى بعد مطاردة الشرطة لأعضاء حركة كفاية ، وحركة كتاب وفنانين من أجل التغيير، والمتظاهرين المصريين اللى بيحتجوا على اللى بيحصل فى العراق ، وموقف النظام المصرى اللى ما بيفرق سنتي واحد عن موقف الأمريكان ، وكان بابا فى طريقه لحضور المؤتمر التضامنى مع المقاومة العراقية وهذا أقل ما يستطيع القيام به الآن حسب كلامه ، بعد ما تنتهى مشاركته فى المظاهرة لحركتهم المساندة لحركة كفاية .
وواضح إنهم ضربوه كتير عشان لمّا عمٍّى وأصحاب بابا من اتحاد الكتاب وصديقه الجناينى الفنان التشكيلى راحوا يشوفوه رفض مأمور القسم بتاع قصر النيل إنهم يشوفوه فذهب معهم وفد كبير من اتحاد المحامين ومعظمهم من أصدقاء بابا ومن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وأنا كنت أعطيت (إيميلك) الأخير لعمو سرحان إللى هوا ناشط كبير فى المنظمة عشان يوصله لبابا واحنا اليوم رايحين نشوفه بعد ما نجحت المساعى لزيارته وهاكتبلك بعد ما أرجع من عنده ويمكن يكون كتب لك حاجة من المعتقل لأنهم رحلوهم لمعتقل القلعة الشهير ، وانتى عارفة إنهم أيام أنور السادات كانوا أوهموا الناس بإغلاق المعتقلات .
لكنهم على رأى بابا ، أغلقواالأبواب الأمامية وفتحوا الأبواب الخلفية .
هارسل لك( إيميل) ان شاْء الله بعدما أرجع من عنده ولأن أخى ماجد مايزال طريح الفراش يتألم من جراح جسده وروحه .
وهذا ما سيقوله بابا لكم عند خروجه ان شاء الله






6

هو الدفء يعاودنا برغم الأسى



منارتي الحلوة :
برافو عليك يامنار ، انتشلتيني من حيرتي وقلقي على (بابا) .
أخبريني عن صحة ماما ووضعها النفسي ، أعلم أنها إمرأة قوية وصبورة وستتجاوز المحنة بروحها الجسورة ولاسيما أن بابا قد اعتاد أن يدخل المعتقلات بسبب نشاطه السياسي.
كلماتك حبيبتي منار باللهجة المصرية التي وردت إلى( إيميلي) هيجت الأشجان في داخلي ، أيقظت الحنين يامنار إلى ذلك الزمن الغابر والذي انضم إلى خزين الذاكرة ، عندما كانت بغداد بيتا مفتوحا وسقفا يحتمي تحته أي عربي باحثا عن سعة فى الرزق ، أو هاربا من قبضة رجال الأمن أوالمباحث كما تسمونها، منتزهات بغدادالسياحية أو أسواقها وصالوناتها الثقافية والفنية لم تكن تخلو يوما ما من وجود أي زائر عربي
كنا نهمس بفرح وفخار فيما بيننا أن عدد المصريين في العراق يفوق عدد العراقيين أنفسهم ، فالعربي كان يقصد بغداد لأنها كانت تعشق الضيوف وتفتح صدرها لهم.
بغداد اليوم دفعت بأبنائها للتحليق خارج السرب ولم يعد يُسمع صوت عربي في شوارعها ، مدينة أشباح مظلمةلاتسمع في شوارعها سوىرشقات الرصاص أو أبواق آليات الشرطة وعربات الأمريكان وهي تمرق مسرعة دون أن تأبه لمركبات المواطنيين.
قبل سنة من الآن ، لم أتمكن من أقناع عبد الرحيم وزوجته العراقية ندى من البقاء في بغداد بعد أن تعرض هو الأخر إلى تهديد بالقتل من قبل عناصر مجهولة وتم حرق فرن الصمون الذي يعمل فيه بالأجرة .
لا أريد إن أقحمك في تفاصيل حياتنا الشاقة بعد الإحتلال.
لازلت صغيرة وذاكرتك غضة على أن تستوعب معنى أن تحتل الأوطان .
إنه الدمار بعينه يا حلوتي وهو الشقاء الأبدي والخراب الذي يٌتلف كل ماهو جميل وشفاف.
كيف هي العزيزة هيام وهل أجلت زفافها إلى عريسها محمد نبيه بسبب ماألم بكم من محنة اعتقال الوالد ؟. ربنا يتمم لها بخير .
أخبري الوالد أننا سننظم حملة إعلامية مكثفة تساهم فيها منظمات حقوق الإنسان والدفاع عن حريات التعبير والرأي في العالم نناشد الحكومة المصرية لإطلاق سراحه وزملائه من المعتقل ، فليس هناك ما يستوجب اعتقاله ، التضامن مع المقاومة العراقية ودعمها لايعد جريمة إلا في نظر عملاء أمريكا ، كما الدعوة إلى التغيير فى المجتمع المصرى ليس عقوقا.
وبلغيه أن الوالدة تدعو له ، وأننالم نخبرها بأمر اعتقاله ، فلم يعد قلبها يتسع لأحزان جديدة .
دمت طعمة للأبد ..



7

مفارقات زمن البغاء

مالكة الروح
ثمة مفارقة يا ندى العمر الجاف
أن تكونى محاصرةالآن ببيتك وملاحقة ومستهدفة من قبل أعداء النهارلأنك تقاومين شراهتهم لسرقة بغداد . بغداد الأرض والتاريخ . المكان والبشر والخير والغد
وأن أكون أنا حبيس المكان التاريخى الشاهد على قلة حيلة سلطات عربية الإسم فقط أمام وضوح الحق وجبروته فى هذا السجن التاريخى. لأنى كنت مثلك وبلا أية رغبة فى التنسيق بيننا أحتج على سكوت هؤلاء الحكام عما يحدث لبغداد العرب .
كانت تلك المدينة التى تحل محل القاهرة حين تضعف كى لا تبقى ساحة الجغرافيا العربية فارغة تنهض وتمارس دور التصدى لأعداء التاريخ والحضارات ، وهكذا كانت القاهرة تفعل .
ولكن ما هو حالنا لو أبصرنا الصورة المقززة التى فيها العاصمتان نائمتان ومحتلتان؟
بغداد بأحذية البربر وقاصفات صواريخهم وطائراتهم التىبلا طيار، والقاهرة بأيدى لصوص الزمن الأصفروفطريات النظام الحاكم السامة.
اليوم صباحا وصلنى (إيميلك) مطبوعا مع منار الصغيرة ، وردك علي (إيميل) لها ، وهى فخورة وسعيدة ، لدرجة أنها أحضرت معها( الووكمان) الصغير الذى تعتز به وبعض البطاريات الجافة وآخر شريط أنجزته فرقتها الغنائية ، فرقة صبا للغناء والحكى الشعبى. التى أسستها مع بعض زملاء لها بالجامعة وخارجها ، وكنت أفخر بها وأرعاها مع أصدقاء لى من الكتاب والفنانين ومخرجى المسرح ونقدمها بالمنتديات الثقافية والتجمعات الجماهيرية التى يتوالى حضورها ونزولها إلى الشارع لتعلن احتجاجا تلو احتجاج .
فرقتها تحظى بطلبات استماع متتالية وبحب كبير لأن مجموعة الغناء ومن يكتبون الأغنيات كلهم من جيلها ،وهذا الصوت الشجى الأسيان للولد هيثم الحلو الملامح والجذاب فى حضوره الفنى والروحى وهو يعزف على العود ويغنى منشدا ومرتلا أشجان كل المصريين الآن
تخيلى ..
وكأنى أسمعها لأول مرة؟ تلك الأغنية التى يغنونها لعلى عبيد منكاش الفلاح العراقى الشيخ الذى أسقط أول طائرة أباتشى أمريكية ببندقيته الصغيرة
إسمعى معى ماذا يقولون :-
((عم على بيصطاد عصافير
صبح الصبح وسابها تطير
قالها ما بصطاد اليوم
إلا الحدى ولا د البوم *
لقى فى السما حدى أباتشى
رمى برصاصته ماخلتشى
طاروا واللى مالحقتشى
وقعت وما عادت بتطير.))
وآه منار الحبيبة لو سمعتيهم وهم يشدون بأغنيتهم
((مكتوب بخط جميل كوفى
الآر. بى .جى أحلى حروفى
صاب الهدف وقتل خوفى
بعد السقوط رجعت بغداد
علشان تقيم فرضك ياجهاد
تمحى الهزيمة بالاستشهاد
وتقول يادنيا قومى شوفى
الآربى جى احلى حروفى
صاب الهدف وقتل خوفى
من الرمادى الى البصرة
نابلس بتنده للناصرة
حاشدة الفالوجة للاقصى
ضامة صفوفك لصفوفى
والآربى جى أحلى حروفى
صاب الهدف وقتل خوفى))
لأول مرة أشعر بالإنسحاق ، ولأول مرة أشعر بغصة الشجن والله ، الأولاد حركوا الدماء فى رأسى وروحى وجسدى، بكيت للحظات ، ونسيت ألم الاعتقال وانهيار موعد عرس إبنتى الكبرى وحزن الزوجة وهى تغص بألم فى روحها لما قالت لأخيها محمود ( جات الحزينة تفرح ما لقيتلهاش مطرح) عرس ابنتها يتأجل برغم أنى قلت لهم لا تأجلوا لها عرسا ، ولكن البنت أصرت ، وقالت لتكن الفرحتان معا ، فرحة بخروجك للحرية المشروطة وفرحة بالعرس .
تعرفى منار؟
اليوم فقط حين طالعت (إيميلك) مطبوعا لا أدرى لماذا تذكرت سينما بابل وزينب سلمان والدكتورفاهم والأستاذ فؤاد وأختك الكبرى هاديا والصغارحازم وماجد وباسل ابن الاستاذ فؤاد وشقيقيك صهيب وحكم وكيف كنا نقضى عطلة أخر الأسبوع بساحة عنتربمركز شباب الأعظمية مرة، ومرة أخرى بمنتزه الزوراء بشارع 14 تموز والصغار حولنا يمرحون ويتعاركون ويحاولون استفزاز ماجد دوما ، وكثيرا ماكانوا يسخرون بشكل محبب من لكنته المصرية ، وخاصة حين كان ينطق كلمة (جدع) ، تراهم جميعا . صهيب وباسل وحكم، حتى زينب سلمان كانوا يتضاحكون عليها ، ولكنه كعادته كان جسورا ويجابههم بسيل من نكاته المصرية فينقلبون على أقفيتهم ضحكا واستسلاما أمام صموده ، وكثيرا ما كنت تنتحين مكانا قصيا وبيدك حقيبتك المستطيلة تخرجين منها كراستك الموردة بالزهور على أطراف غلافها ، وقلمك الذى كان دوما يحمل روائح عطرية وعلى دكة غير بعيدة عنا تجلسين تتأملين وتقطعين أميال الفكر والبوح الداخلى لتصبيها داخل كراستك ،وحازم بجوارك غير بعيد على المقعد الأسمنتى يدلدل ساقيه يمتطى المقعد ويعبث بطرف حذائه فى الأعشاب الصغيرة على الجانبين، وكان الأستاذ فؤاد يبتسم دوما برضى الواثق وهو يلكزنى بمرفقه مشيرا ناحيتك .
: - هاهى الفيلسوفة الصغيرة . خليفتك أستاذ
هل تذكرين منار الحبيبة يوم بكيت بكاء حارا لمجرد سقوط كراسة نبشك وحروفك غصبا عنك بحوض المياه الملاصق لسور دار استراحة أم القرى حين أردنا التوقف قليلا لشرب الشاى بها ونحن قادمون لزيارة عائلة الاستاذ فؤاد بتكريت من جهة سامراء؟ ، وأم حازم ساعتها حين أرادت تهدئتك انهارت فى البكاء مثلك لأنك لم تستجيبى لطبطباتها على صدرك.؟
هى هكذا دائما . قلب أخضر ربيعى لم يعرف منطقة قاتمة أبدا ، تكتظ شغافها بالحب لك ولحكم وصهيب ولكل الأولاد الذين كانوا يصارعون ماجد إبننا الأحاديث والنكات ويترفقون بحازم توأمه لعلته.
قالت لى منار اليوم إن النائب العام أمر باستمرار حبسنا على ذمة لا قضية.
قضيتهم أيتها الحبيبة أن لا يكون لنا قضية ، وكأن مجرد الشروع فى الغضب أو الاشمئزاز من تصرفات هؤلاء الحكام المخذولين هو قضية القضايا التى يجب عليهم اعتقالنا وذبح إرادتنا من أجلها ، وكأن مجرد الغضب أو الشروع فى الغضب من أجل أى عربى يهان فى بغداد أو رام الله أو بيروت هو جرم وإثم ، يقولون إن زمن القومية هذا انتهى إلى غير رجعة كما أن الحرب الأخيرة التى خرجنا منها مكبلين باتفاقيات مذلة هى آخر الحروب
صرت لا أصدق نفسى وأنا هنا وسط جمع وكرنفال من أصحاب رؤى متعددة يجمعنا معتقل واحد ، أكاد لا أطيق مجاورة هؤلاء الأولاد الملتحين وهم يجادلون فى أمور هشة وبعبارات إنشائية مجردة دون تقديم دليل عقلانى واضح عن أن الإسلام هو الحل .
تصورى :
واحدا منهم له أكثر من ثلاثة أيام وهو يجعر بمقولة خاطئة وسط من يشبهونه بأن . ( من إعتمد على عقله ضل ؟)
كيف ؟
بالله عليك هل هم يريدون أن نلغى عقولنا ؟
ومن تكون مرجعيتنا إذن ؟
هل هو مرشدهم ؟
هل يوسعون الطريق لهذا الأمر؟
وكنت أتذكر ساعتها صورة الشاب الذى خرج على عمنا وعميد الرواية العربيةنجيب محفوظ محاولا قتله ،ورئيس النيابة يسأل
:-. هل قرأت شيئا له؟.
فيرد بالنفى ،
:-وهل قرأت أولاد حارتنا ؟
فكان النفى طريقه أيضا.
ولماسأله
:- لم حاولت قتل الرجل ؟
صرخ وقال
:- لأنه كافر ويكتب الكفرالصريح
فقيل له
:- ومن أدراك إن كنت لم تقرأ له شيئا أنه يكتب الكفر الصريح ؟
قال ساعتها
:- إنهم قالوا لى هذا .
أذكر كيف هم يروجون لمقولة ( من اعتمد على عقله ضل) ، ومتناسين دعوة صريحة من القرآن لإعمال العقل . أفمن يعقل كمن لا يعقل ؟ ، وفى أنفسكم أفلا تبصرون ؟ ، أفلايتدبرون فى خلق السموات والأرض؟ ، أفمن يعلم كمن لا يعلم ؟ ، أفلا يتدبرون القرآن؟
المهم أنى حاولت الصراخ بأعلى صوتى أمام المحقق عن وجاهة سبب اعتقالى ، واستغرب المحقق للأمر ، فقلت له لأن هذا هو زمن الأشياء المقلوبة، زمن المفارقة الكبرى كما يقول صديقنا المفكر الرائع دكتور محمود اسماعيل.
نحاول أن نستبق الزمن هنا ياعزيزتى لنشكل رؤى موحدة من هذا الكرنفال العجيب فى غرف الإعتقال حين نجتمع ساعة أو ساعتين كل يوم ، خليطا من عمال وطلاب جامعة وشيوخ وملتحين أصوليين وشيوعيين وعلمانيين وقوميين عروبيين . حتى من كنا نتهمهم بالتحيز للعنصرية المصرية فى دعوتهم لفرعونية مصر والدفاع عنها وإلغاء أى صفة عروبية عنها ، نحاول تشكيل رؤية موحدة برغم بعض الحذر من هؤلاء السلفيين ( فقط لتشنجهم دوما وتشدقهم بكلام إنشائى ، مما يجعلنا نتوجس منهم فى كل مرة) .
مصر مقبلة على كارثة غير محددة الملامح ياعزيزتى ، غير الكارثة التى تهبط كل لحظة على العراق ، فهى محددة المعالم والأدوات وأدوار من ينتجونها.
لا تحاولى الخروج كثيرا من البيت وأوصيك بأمك خيرا ، لقد جعدت النكبات روحها ، وإذا كان هذا الفارسى المبتذل الذى عين مديرا لمكتب صحيفتك فى بغداد يتربص بك فلا تسلميه أمرا .
كونى حذرة ، فليس من الذكاء أن نسلم أرواحنا ومواقفنا وكفاحنا بسهولة لهؤلاء .
قالت لى منار أيضا:- إن الدكتور فاهم يترقب وصول شهر يوليو لألقاه بطرابلس أثناء احتفالاتها وجامعة ناصر الأممية بعيد ثورة 23 يوليو كل عام ، هذا اليوم الذى صار ذكرى غير مريحة لنظام الحكم وصار عبئا على الأصدقاء المنتمين لرؤية تبنتها تلك الثورة ، الكل سواء ياعزيزتى فى محاولة محو هذا اليوم من الذاكرة الوطنية النظيفة ، والدكتور فاهم يتوقع لى إفراجا قبل الموعد ، مسكين هذا الرجل كم يعذبنى رقى روحه وشفافية قلبه.
وقالت لى منار أيضا إن والدتها هى من قامت بالرد على زينب سلمان من سويسرا هاتفيا ، حين كانت متلهفة على الاطمئنان عليكم عن طريقنا ، وأنهما دخلتا فى نوبة بكاء حين أخبرتها باعتقالى .
لا تكملى الدائرة اللعينة منار وتجعليهم يعيدون إنتاج قمعك ، واشكرى بالنيابة عنى ومن صفحتك التى تكتبيها ، ومن موقعك الألكترونى كل من ساهم فى الدفاع عن حقنا ومناشدة الطغاة للإفراج عنا ، سواء كان صديقا أم منظمة أم غير ذلك .
أنا واثق فى جسارتك وفى قدرتك على تحمل غباء هذا المدير الجديد لمكتب الصحيفة وطائفيته
وأتمنى ان أستقبل أنا( إيميلك )القادم قريبا
وقبلى أمك كثيرا ، وحاولى الكذب عليها بأنى حدثتك بالهاتف كى تجد نقطة ضوء فى هذاالبحرالموار بالظلمات ، وأن ماجد حتما سيعود لصهيب وحكم.

8
لماذا تفقد هيام عاشقيًها



منار ياحبة القلب وبذرة الضياء
لكثرة تساقط أمطار الألم علينا من كل مكان كدنا نفقد صوت هيام شقيقتك الصغرى، وما ذكرنى بها فى الحقيقة سوى صوت ماجد الحبيب الذى يرن فى أذنى باستمرار ، والدموع تنهمر على وجنتيه لتصنع حبيبات من بللور شفيف حول زاويتى فمه المضمومة على ألمه وحسرته وهو يتذكر هيام المشاغبة . حين سألنى ذات مرة بعيون مدمعة
:- هل سألت أبلة منار عن هيام ؟
هل تذكرين متابعتنا لهما وهما يتناجيان متجاورين بالمقعد الخلفى فى عربة القطارالخارج من بغداد قاصدين جميعنا حمام العليل؟
وكانالا ينتبهان للقرى الصغيرة التى يعبرها إلا عندما يتوقف القطار لدقائق فى سامراء أو تكريت أو الشرقاط وقبل الموصل التى نشعر بها قبل الوصول ، فلا حاجة لنا بالذهاب إليها لملاقاة صديقنا رعد زيدان وزوجته .فهما سيستقلان القطار القادم منها لنلتقى جميعا عند حمام أم العليل ، وهو من أوصتنا أمك بضرورة ذهاب أم حازم إليه وزيارته لتتخلص من حرقة الأطراف وحكة الجلد بالمياه الحارة التى تطلع من بطن الأرض فيه.
كانت تستوقفنا كثيرا فى الشهور الأخيرة علامات النضارة على وجهيهما ، وكثيرا ما كنت تقولين لى.
:- ألا تلاحظ شبها بين الولد والبنت فى الملامح بعد أن كبرا وبلغا؟
وكنت أقول لك.
:- لعله الحب ياغالية هومن أوجد النضارة فى الملامح لأنها نبتت فى القلوب ونمت بالألفة والعشرة الطيبة
كنت أراقب باسم إبن الأستاذ فؤاد وهو يحوم حولها كطير حول بركة ماء أو حفنة من غلال ، وكان يتراجع مسرعا حييًا حين يرى ماجد مقبلا إليها ، أى لغة راقية أتقنهاهذان الصبيان ، كلا منهما كان يؤثر الآخر على الفوز بقلب هيام ، وكثيرا ماكنت أرى ماجد يتوارى ويحرص أن لايراه باسم وهو بحضرته معها . لشد ما يبكينى الآن ، والآن فقط يامنار. شعور الفقد الذى يندس فى شغاف روحى ، هاهو باسل أسيرا أو معتقلا أو.. أو.. الله أعلم ، لكنه بلا شك يحمل هيام بين جوانحه ، وماجد أسيرعجز جسده لإصابته التى لحقت بساقه ولا تقبل برءا ، وإصابة روحه التى أراها ترجه رجا حين يأتى ذكر هيامه بهيام.
لا أدرى ماذا أفعل له أو ما تفعل له أمه لتطبب له جراح روحه ؟
كم يتمنى العودة لبغداد ، وبرغم أنه يدرك استحالة ذلك ، فالعرب الآن وإن حملوا جنسيبات أخرى مستهدفون ، لم تعد بغداد عربية على ما أعتقد، الفرس يملأوون شوارعها وحوانيتها،كما الأمريكان وكثيرمن القادمين من الجارة المغروزة فى خاصرتنا وكم سمعته لأكثر من مرة يتمنى العودة إليها والموت من أجلها ولتكن هيام شاهدته الوحيدة.
آه أيتها الصبورة بجراحك مثلى ومثل فؤاد صديقى المقطوع فؤاده على باسل . قالت لى منارالصغيرة إن عمها الدكتور فاهم اتصل من طرابلس الليبية يشكو غربة مؤلمة ومضاعفة ، فهو كان يظن أنه وسط قوم من أهله ، ولأن ما يرفعونه من شعارات لا تتعدى حناجرهم وغير ذات أثر فى الواقع ، وأن الحاكم هناك يقود تظاهرة فى الشارع من أجل خروج الأمريكان من عراقنا ، والعراقيون بين ظهرانيهم مهانون لا يقتاتون سوى بالقليل القليل.
وقالت: إن أختى لطفية الدليمى حينما أرسلت لها ليلة الأمس( الإيميل) الذى تذكرين به شيئا عنها وعن أبنائها ومحنة اغترابهم ردت ب (إيميل) قصير تشد به من أزرى وتصحح لك أمرا بسيطا ، وهو أن ولداها مغتربان فى ألمانيا وسويسرا وليس فى السويد ، وأنها تعبر عن شكرها لك على تهنئتك بخروجها سالمة من أنياب الموت فى بغداد وقد ردت برسالة قصيرة لك تقول فيها:
(أختى منار
أرى أن الإبتعاد عن وطن يتحكم فيه الجهلةلا ذل فيه ، بل إن الذل فى الاستسلام لهم ، والإهانة أن تعيش تحت وابل جنونهم
أنا هنا يا أختى أعيش فى باريس فى منفاى حرة تماما ، ولى حقوق إنسانية حرمت منها فى وطنى وبقع عربية أخرى كنت أظنها أوطانى))
الدكتور فاهم ولطفية الدليمى يامنار يذكرانى بالأستاذ فؤاد الذى حبس روحه فى حزنه على باسل ، وهو يحاول زيارة القاهرة عن قريب ويخشى أن لا يسمحوا له بزيارتى فى محبسى ، أو حتى لا يسمح له أساسا بدخول مصر و المكتوب على بوابتها ( إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) لكنه يتمنى من جهة أخرى أن يفرج عنى ليلقانى بمنزلنا بالمنصورة الذى شهد سهرات طويلة وممتعة بيننا ووسط أشقائى الذين كانوا يتقاطرون عليه ثقة فى مهارته الطبية التى كان يروج لها أخى الأصغر الذى عمل مديرا لعيادته بشارع السعدون عامين كاملين، تصورى أن خالى محمود وهو طبيب ماهر فى الأمراض الجلدية تصادق عليه وكثيرا ما كان يستشيره فى أمور طبية كثيرة ؟ وأنهما اتفقا أن لايأتى موعد مشاركتى هذا العام بجامعة ناصرالأممية باحتفالاتهابثورةيوليوإلاوهمايصطحبانى على نفقتهما ليشاهدا دورى الذى أصرح به دوما فى فعاليات كل عام . الدكتور فاهم يتصل أسبوعيا بنا ليطمئن على وصول المراهم المزيلة لحساسية الجلد التى تعانى منها أم حازم منذ سنوات إقامتنا ببغداد والتى يندر وجودها هنا بعد أن تم تصفية الشركةالهولندية المصنعة له ولأدوية هامة كثيرة أعمالها بمصر لأسباب لا أخوض فيها الآن .
كنت قد واعدتك بأن أحكى لك طرفة وقعت لى أثناء آخر مظاهرة شاركت فيها بشارع الجلاء بالقاهرة حين استدعيت على عجل من قبل جماعة كتاب وفنانين من أجل التغيير لإعلان موقف احتجاجى من حفريات الصهاينة تحت أحد أسوار الأقصى ، وبالمرة نؤكد رفضنا لتلك التعديلات الدستورية المغرضة التى ينوى النظام هنا تمريرها لتكريس التوريث عن قريب
لما خرجنا بعددنا القليل إلى الشارع بلافتاتنا وشعاراتنا السلمية ، والمفترض أن تجد استجابة ولو خجولة من أجهزة الأمن ، لأن الأمر ليس به مساس بالأمن العام كما يدعون علينا دوما ، وليس به محاولة تكدير للنظام العام ولا لنظام الحكم ، واجهتنا أرتال من سيارات الشرطة وكأنهم ذاهبون لزحف مقدس ، وجحافل من أبناء مصر المساكين من مجندى الأمن المركزى ، والمدربين على مواجهة ذويهم وأهليهم بالقسوة والشراسة ، وأصابتنى دهشة حين كنت أطوق رأسى بذراعى لأحميها من بطش عصاة جندى ضئيل ومكدور الملامح وهو يباغتنى بها ، ولما لم تسقط فوق رأسى كما توقعت فوجئت بذلك الجندى وهو يبتسم بخجل وأمارات البلاهة الإنسانية التى تشف بها ملامحه يطوق جسدى من خصرى ويحتضننى بقوة ، ويمسك بيدى يشد عليها وهو يقول :
:- إزيك يا أستاذ حسن ، يانوارة بلدنا ، انت بتعمل ليه كده يا أستاذ ؟
ماتسيبك من الناس دى وتروح بعيد الله يسترك .
إرجع المنصورة الله يسترك .
أحسن الجماعة مش ناويين على خير معاكم الله يسترك .
ساعتها كان هناك من يلقيه أرضا بركلة قوية منه فى ظهره ، ويرشقه بعبارات مقززة من شتائم وسباب للأم والأب والكون كله ، ولما انحنيت لأسعف الجندى محمد ابن جمال البدراوى الذى كان أبوه زميلا لى فى مدرسة القرية ونحن صغارا ومات بداء الطحال منذ سنوات ، كان نفس الضابط العفى ينهال على ركلا ولكما ، ولم أفق سوى بوجودى محشورا داخل الصندوق الحديدى الصلد لعربة كبيرة بلا نوافذ وسط جماعة من مثقفين وطلاب وبشر عاديين.
الآن أكتب لك هذا وعلمت أن الجندى محمد يرقد بالمستشفى داخل قفص من الجبس يطوق نصفه الأعلى ، وسمعت أن وزير الداخلية زار جرحاه وهو من بينهم ، وكانت عدسات التليفزيون الرسمى تلتقط صورا له ولكلام قال فيه إن المتظاهرين (بتوع) السياسية قدأوسعوه ضربا ، وهم من خطفوا سلاحه وعصاته الغليظة ، وعرفت فيما بعد أنه حوكم عسكريا بتهمة الإهمال ، وقد يصدرعليه حكم بعام حبسا جراء فعلته وتسيبه .
كم أشعربذنب تجاهه ، وسخرية من أكاذيبهم التى يغطون بها فضائحهم فى قلب الحقائق.
أى حملة تنظمين ، ولمن تتوجهين وغيرك بالنداء ياعزيزة؟
إن هؤلاء الناس يصمون آذانهم عن كل شىء يحفظ للمرء كرامته وحقوقه الدنيا ، فلا عليك ، حافظى أنت على نفسك كما أوصيك دوما ، وانسخى أكثر من نسخة من قصصك ومقالاتك على( سيديهات) وأبعديها عن البيت منعا لتلفها أو إتلافها إن ألقى القبض عليك مرة أخرى ، وهو ما لا نتنمناه ، وانتظرى اتصالات زينب سلمان التى ترتب أمورها لإرسال المبلغ المطلوب عن طريق حلب بسوريا ، وستحاول فرقد القيام برحلة فى نهاية الفصل الدراسى الثانى إليها مع ولديها بعد انتهاء الدراسة بمدرستها للبنات بالموصل
وأتمنى أن يسعدك أمر فرقد التى أخبرتنى قبل اعتقالى بأنها زارت الأستاذ سعيد نجم المصرى المقيم منذ ثلاثين سنة بمدينتها الموصل ، واطمأنت على شفاء ابنته مرام من الحمى التى كادت تفتك بها ، وأن مرام عادت للدراسة برغم عدم انتظام الأيام الدراسية هناك .
كونى واثقة فى أمر زينب سلمان وجديتها فى إرسال المبلغ المطلوب لتدبرى به أمورا اتفقنا عليها ، وأن الرسول الذى يحمل المبلغ سيصل عصر اليوم المتفق عليه إلى بناية كبه بشارع السعدون ويتم تسليمه لمن ترسلوه إليه بداخل مكتب نقليات( ليفانت اكسبريس) بالطابق الأرضى.
أنتظر على شوق( إيميلك) القادم ، وكم أتمنى أن أستقبله بنفسى ، فأنا أشم رائحتك فيه طازجة ، أراك من خلال غلالة دموع الفرح ونبضات اللهفة فيه وأكاد أصفق طربا برغم عدم اليقين من أنه يحمل أنباء سارة حين أرى صفحته تظهر فوق شاشة الحاسوب شيئا فشيئا .
لا تحرمينى أرجوك من فرحة متوجسة ولا من سعادة مرتبكة ، وكونى دوما مطمئنة لبقائك أبدا بالروح وبشغافها .




9

هام وعاجل وسرى


عزيزي حسن
متى تتوقع أن تبادر زينب سلمان بإرسال المبلغ الذي اتفقنا عليه ؟
هناك حاجة ماسة إليه لشراء بعض السلع الضرورية جدا ، لن تكون بحاجة أن أنبهك إلى كيفية التعامل مع الإنترنيت في مثل هذه الأمور ، وأحذرك أن تذكر أن الأموال التي أرسلت هي لغرض تمويل المقاومة ، حاول أن تتصل بزينب وتخبرها بعدم إرسال المبالغ باسمها الحقيقي ، الوضع الأمني عندنا متوتر جدا ، مكاتب الصيرفة وصاغة الذهب وتجاره اعتقلوا بتهمة التمويل ، أرشدها إلى عدم إرسال المبلغ حوالة نقدية ، بإمكانها إرسال المبلغ إليك في القاهرة ، وتتولى أنت إرساله إلى نجم في الموصل عن طريق صديقك السورى وصديق وليم ، على أن يقوم نجم بإرساله إلى مكتب( ليفانت اكسبريس) في بغداد ، هذه الطريقة أفضل أمنيا
رغم الحاجة الماسة لهذه الأموال إلا أن من الضرورة أخذ الحذر ، لأن القوات الأميركية قامت بعمليات مداهمة لكل مكاتب الحوالة والصيرفة واعتقلت أصحابها وسرقت ما بحوزتهم من الأموال بحجة استخدام أموال لتمويل المقاومة.
تصل بي نبيل وطلب إبلاغك إرسال المبلغ بالسرعة الممكنة لشراء سلع ضرورية جدا في هذه الفترة . أرجو نقل تحياتي إلى زينب في زيورخ مع امتناني الكبير لها .



10

قلبي رقص طربا

حسن فى حسن روحه
زغرد قلبي طربا حين أخبرتني زينب سلمان في اتصال معي أنهم اضطروا أن يطلقوا سراحك ويمنحوك حريتك بعد اعتقال دام أكثر من شهرين ونصف الشهر ، لست أدري لماذا تخيلتك طيرا حلقّ في السماء واتجه مباشرة نحو حدائق بغداد وشطآنها ؟
ساعات وبصري عالق في الهواء أراقب الطيور التي تتنقل مستبشرة فرحة بين أسلاك الكهرباء وقمم الأشجار الباسقة في الحديقة .
رأيت صورة الفرح المرسومة في عيون زينب عبر الأثير وتيقنت أنك أيها الحسن سرقت الأضواء باتجاهك مبكرا جدا ، وصرت تسكن قلوب المقربين والبعيدين في آن واحد ، ثم فتحت الإنترنيت فجأة ووجدت رسائل تهاني من الدكتور فاهم والأستاذ فؤاد والفنان التشكيلي الجناينى والصديقة فاطمةالحمزاوى من تونس كأنهم اتفقوا جميعا على إرسال رسائلهم دفعة واحدة فما أن انتفض قلب الماسنجر في الحاسبة حتى انهالت علي تحمل التهاني
(مبروك ، حسن اكتسب حريته وصار طليقا مثل العصفور)..
قطفت وردا جوريا أحمرا وباقة من زهور البنفسج والليلك ، وهممت أن أحمله إليك وأنا أقدم التهاني لك وأقبًل خد أم حازم ومنار الحلوة وهيام الشغوفة، لكني صحوت فجأة على صوت أمي وهي تزعق بي:
:- قلت لك لاتقطفي الإزهار من الحديقة.
أيقظنى زعيقها ياحسن من الحلم ووعيت إلى نفسي متسائلة
:- ماذا أفعل أنا ، حسن غير موجود هنا ، حسن في القاهرة
لاأدري ياعزيزي ربما لأني اعتدت منذ البداية وفي الأشهر الأولى من حملة الاعتقالات التي طالت معظم الأصدقاء الذين كانوا يعملون في أماكن حساسة في الدولة ، أن كنت أذهب إلى أقرب محل لبيع الزهور وأبتاع باقة زهر لأقدمها وأنا أزور الخارج من المعتقل ، وتصورتك كنت معتقلا في أحد سجون الاحتلال الأميركي : بوكا ، أبو غريب ، سوسة .
لحظات السعادة تمرق سريعا وتخرج بدون اسئتذان من القلب ياحسن ، كنت قد جلست إلى جهاز الحاسوب وفي خيالي الغض فكرة أنك ما أن تدخل إلى الدار ستستقبل الإنترنيت وتضيء نافذتك لتكلمني وتخبرنى عن ماجرى معك في المعتقل تماما ، كما كنت أفعل مع أي معتقل عراقي يغادر زنزانة اعتقاله بعد اعتقال دام أكثر من سنتين أو ثلاث.أسألهم عن أدق التفاصيل وكيف قضوا سنين الإعتقال ، وكيف تعامل معهم السجان والعلاقة التي نشأت بينهم
هل تعرضت إلى تعذيب ياحسن.؟
وهل ألبسوا رأسك الكيس الأسود؟
وهل خاف منك السجان ووجه رأس بندقيته باتجاهك وأنت تضحك بملء فمك كما فعل كريم ؟
عندما التقيت بكريم بعد مغادرته المعتقل وجدته كالعادة يضحك بملء فمه ويقهقه ، فلا زال يتذكر ذلك المنظر عندما وضع الجندي الأميركي الكيس الأسود في رأسه ، وقيد وثاقه من الخلف ، واستمر يوجه رأس بندقيته باتجاهه أكثر من ساعة مما دعاه أن يقهقه ضاحكا تحت الكيس. سألته
:- لم كنت تضحك ؟،
أجاب
: - كان يرتعد مني خوفا والكيس في رأسي . إنهم جبناء يامنار وقوتهم وهم كبير. تصوري حتى الأغلال في أيدينا والسلاح في أيديهم نزرع في أعينهم الرعب والخوف ؟..
كريم ياحسن لم يعد قادرا على العمل بعد تعرضه لتعذيب جسدي كبير لمدة ثلاثة أشهر متواصلة وكان أحد الذين نشرت الفضائيات العربية والأجنبية صور تعذيبهم في معتقل أبو غريب.
لا أعرف يا حسن إن كان بإمكاني أن أرسل (إيميل) قريبا جدا لك ، سأكون منشغلة غدا مع فاطمة محي الدين والدة الشهيد (وعد) الذي استشهد مساء يوم الأمس بعد أن قاد اشتباكا رهيبا بمعية مجموعة من الشباب ، قطعوا الطريق على رتل مدرعات أميركي كانت تود اجتياز منطقة الطارمية باتجاه القاعدة الأميركية في بلد.
وبالأمس شيعت الأعظمية البطلة جثمان وعد بالهلاهل والزغاريد ورشقات الرصاص وسأضطر أن أتواجد قريبة من والدته فاطمة وعمته شادية لأواسيهن في مصابهن هذا ، ليس هناك مجلس عزاء مقام فوالده رفض أن يقام له عزاء . بل مجلسا يستقبل فيه المهنئين باستشهاد ولده .
سأغادر بعد غد لمدينة الموصل ومراجعة قنصلية تركيا للحصول على تأشيرة سفر لفاضل محمود أحد المقاومين الأبطال الذي يرغب بمغادرة البلد فترة محددة بعد أن ضيقواّ عليه الخناق من كل صوب، وصار مطلوبا رئيسيا يبحث عنه وتقام من أجله مفارز ونقاط تفتيش.
لا أعلم إن كان بإمكاني زيارة نجم سعيد للاطمئنان على صحة ابنته المريضة مرام أم لا ، أخشي أن تعرقلني مهمة القنصلية التركية من أداء واجب الزيارة وإذا اضطررت للبقاء في الموصل نهارا آخر سأذهب للمبيت في منزل نجم وأفتح (النت) معك من منزله .
لم أخبرك إني غير راضية على قرار سفر فاضل المفاجئ وحاولت إقناعه بالعدول عن فكرة السفر ولكنه أخبرني إنه يريد الابتعاد قليلا لكي لايكون لقمة سائغة لهم وستكون فترة سفره قصيرة جدا ويعود ليمارس نشاطه من جديد.
فاضل أحد الأبطال الذين يقودون الاشتباكات مع فلول الأمريكان ، ونادرا ما يرجع من الاشتباك دون صيد ثمين ..قال لي نجم إنه مستعد لاستضافة فاضل في منزله ليكون بعيدا عن متناول أيديهم وطالبني بإقناعه بعدم السفر وسيكون مسؤولا عن تدبير الراحة والأمان له في منزله
عزيزي حسن
غادرت الفراش بعد أن استعصى علي النوم ، لم أستطع أن أغفو رغم الإرهاق الذي اشعر به جراء الحركة المتواصلة ، ولم أتمكن من أخذ قيلولة والإغفاءة قليلا لأني انشغلت في تأدية واجب أخر هو زيارة أسرة عمار لمواساتهم في ابنهم ثائر الذي أصيب عندما أطلقت القوات الأميركية عليه النار وهو يقود سيارته في أحد الشوارع التي انفجرت فيها عبوة ناسفة استهدفت إحدى عرباتهم ، وقتلت ما فيها من الجنود . الأمر الذي جعل الجنود الآخرين يفقدون رشدهم وبادروا إلى إطلاق نيران عشوائية وتوجيه رؤوس بنادقهم هنا وهناك.
كان ثائر من بين عشرة أشخاص تعرضوا إلى نيرانهم ، توفي خمسة منهم ونقل ثلاثة آخرين إلى مستشفى اليرموك العام ، وعاد ثائر وصديقه بسام ينزفان الدم .
لم يعد أحد يسلم من الموت والإصابة ياحسن . الموت يتربص بنا أينما أدرنا وجهنا ، هل سمعت من الفضائيات اليوم عن تلك العائلة المكونة من ثلاثة عشر شخصا قتلتهم القوات الأميركية وهم نائمون في منزلهم بمنطقة الإسحاقي الواقعة جنوب بغداد؟
هل سمعت كيف أنهم وثقوا أيدي رجال ووضعوا الكيس الأسود في رؤوسهم وأطلقوا عليهم النيران دفعة واحدة ، ثم رموا نيرانهم باتجاه النساء والأطفال وأردوهم قتلى؟..
هل سمعت عن بنت المحمودية التى اغتصبها الوغد الأمريكى وقتلها وكل أفراد أسرتها ؟ القلب ملىء بالحسرات يا حسن . بالحسرات . والله






11

الدم ميه ؟


( إلى فتاة المحمودية التى اغتصبها جندى أمريكى وقتلها هى وكل أسرتها)
الدم ميه والهوا مخنوق
فى المحموديه البنت مغصوبه
تشكى العروبه لكدابين السوق
اللى سابوها وراحوا يتغدوا
شديت عقالك يابو الدماغ طوبه
دلدلت ديلك والأمريكان شدوا
على بنت عمك ف العراق يا جبان
والدم ميه وانت دمك جاز
سوى كنت مصرى ولا طرش حجاز
أو سورى تتقصع وتمضغ لبان
أو ليبى بتقعمز مع النسوان
وسعلى صدرك كده
لا مؤاخذه يا أخينا
بنت العراق كشفت مخازينا
من المحيط للخليج سوقنا الطناش ع الهبل
هيه خطيّه واحنا فيران الجبل
وكل فسل و... عامل أمير فينا
يقعد على البرميل ويعد دولاراته
ويرضى بوش وشارون لوحكمت على مراته
بنت العراق ماتت علشان أصول الشرف
واحنا اللى (جتنا قرف) عشنا بظروف التجاره
ورفعنا راية الدعاره با سم الكلام الشديد :-
تحيا العروبه تحت السلالم وع الرفوف
تحيا العروبه ع الجدار جوه الكهوف
تحيا العروبه ف (الطُرب)*
وع الجِمال زى الجرب
تحيا العروبه بس من غير العراق
تحيا العروبه بالأدب
تحيا العروبه وتموت فتاة المحموديه
علشان نصدر نفط ونصفى القضيه
والدم ميّه.. الدم ميّه.. الدم مية
-
منار
يارائحة الأيام والدم الذكى
وقفت أختى التى تصغرنى تماما وسط الجمع الذى يملأ غرفة الضيوف وصالة البيت وأمام الدار الكبيرة بقريتى بالمنصورة ، وكانت بقدر فرحها واغتباطها تحمل ملامح جهمة وبها خشونة مفتعلة ، وصاحت فى وجه صديقى الشاعرسمير الأمير وهو يلقى قصيدته التى افتتحت بها إيميلى هذا ، وشوحت فى وجهه:

_:يا خويا انتوا جايين تفرحوا له واللا تقلبوها غم؟
وعملتوا ايه للى انقتلت هيا وأهلها واغتصبوها وبهدلوها قبل ما يقتلوها؟
فاكرين كلامكم هيرجعها واللا يرجع ناسها؟
يااااااه ياحسن
ياابن امى وابويا
هتفضل محملنا همك لحد ما تودينا القبر
إرحم أمك شوية يارفيق عمرى
وشوف بناتك اللى على وش جواز ياخويا
وراحت فضيلة أختى أم حسن فى نوبة بكاء حادة وهى ترمى برأسها على صدرى ، بينما توقف شدو صديقى سميرالأمير، وصاحب القصيدة ، ولما انحنت الرؤوس للحظة على الصدور لتأثير كلماتها ، هب خالى محمود المناضل فى صفوف الحزب الشيوعى المصرى قديما قبل ثورة يوليو والعضو البارز بحركة كفاية المصرية حاليا ، وصفق بكفيه غامزا بطرف عينه إلى هيثم الذى راح بعوده يرسل شجنه الشجى ومن خلفه على عبد العزيز الشاعر ذوالسمت الطفولى والذى يكتب أغنيات الفرقة غالبا كى يبدءا الشدو ويطربا الحاضرين ، وسرعان ما تبخرت كلمات أختى أم حسن ، وطارت بعيدا ، وعادت لملامحها علامات رضا وحزم وثقة حين رأت الإصرار فى العيون والملاحة فى المحاجر وهى تغنى مع هيثم وعلى
حبيى راح السوق يتسوق
ليًل عليه الليل وآهو عوًق
فاتنى بدمع العين وقلبى متشوًق
حبيبى راح السوق من بدرى
الليل طفًى نجومه ولا طلع بدرى
هوا البُعاد قسمتى واللا الفراق قدرى؟
ياسوق بتاخد كل شىء ماتجيب
الا السهروالآهة فى المواويل
خسران مين يدخلك
لوحتى جرحه يطيب
لما دخلت أمى بانحناءة ظهرها البسيطة صفق الحاضرون يداعبونها ، لكنها وهى الحاملة دماء تركية بعروقها ، إحمر وجهها بما يشبه الغضب وليس بغضب ، ورطنت بكلام مبهم الحروف به حنق وقلق وليس بحنق ولابقلق، ومصمصت بشفتيها المكرمشتين ، ولما حاولت إسناد عكاز يدها الأسود الأبنوسى تلقته منها أختى فضيلة وساعدتها كى تتخطى الجالسين فافسح لها الدكتور محمود المؤرخ والمفكر اليسارى المعروف وهو بمثابة الأب الروحى لنا كلنا ،وأجلسها بجوارى ، ولما اطمأنت لمجلسها دعكت فمها المزموم ،وأطلقت زغرودة جائعة هزيلة لكنها لفرط تأثر الكل بها راح الصراخ المتهلل والضحك الصافى يرتفع فى المكان، فانبرى مصباح المهدى القابع فى طرف الكنبة البعيد ، محنى الراس ،وبجسده القليل ، وسمرة وجهه التى تشبه سمرة وجه أبى الراحل ، ومن خلال ورقة صغيرة متكورة بقبضة يده الصغيرة ولم يفتحها راح يوزع أساه على الحضور:-
كذا وعشرين ملك عربى
زائد
كذا وعشرين سنة استبداد
يساوى
يكون الناتج الفعلىسقوط بغداد
وناتج فرض الاستعباد
وجود الناس مع المحتل والمختل والقواد
وجود خازن ..وابوخازن.. وابو مخزون
وكل اللى اتعرض فى السوق وله عين
اللى قال قمة يصف جيوش
ويستطلع طلايع النصر فى عرض البانوراما
ويستعرض قفاهم بوش
جناب الحاكم العربى بلا قاعدة
بييجى من فضاء تانى
أمير.. ريس.. ملك .. سلطان
وقبل ما يستلم مكتب وبصامة
يقوم يلعن أبو القاعدة
وكل اللى انتسب للدين
زكى.. عثمان
على .. شعبان
عمر .. سليمان
ماهيش فارقة
مادام راح يعتمد حاكم / ملاكم
شعبنا الطيب هيقبل بيه
ويرسم صورته ع الجدران
وع القاعدة ويحلف بيه
يمين العاهرة
بالشرف اللى مش ولابد
مادام فيه روس يلا قاعدة
وقاعدة مأجرة القاعدة
وفيه شوال وذو القعدة
وقاعدة بيلعنوها
شيوخ جوامع
فى البلد قاعدة
هييجى من فضاء تانى
أمير .. ريس .. ملك .. سلطان
ومرسم صورته ع الجدران
وع القاعدة
وعاد مصباح إلى مجلسه هادئا كعادته ، فأحنت أمى جذعها الراقد على الكنبة بجوار خالى محمود ، وأطلت ببصرها الكليل نحوه وهى تضع كفها فوق جبهتها
:- هوا دا الواد اللى بتقول دايما عليه الواد مصباح ابن عمى؟ والنبى ياابنى كلامك مر زى الزمن
فارتفعت نبرات البهجة ، وعادالشباب يغنون هذه المرة أغنية عراقية لرجال المقاومة كانت هيام أرسلتها لماجد عبر ملف مضغوط عن طريق الإيميل وكانوا قد تدربوا على لحنها وإيقاعها الحماسى بعد أن أوضح لهم ماجد ما التبس عليهم من عبارات عامية عراقية ،وكان المارة بالشارع يتوقفون للتصنت على من يغنون:

حياا الله اهل الفلوجة الكلهم شجعان
ما دنّوا* راس و ذلّوا للأمريكان
حيّا الله اهل الفلوجة ال تيجان الرّاس
ولدين الله ورسوله وكفوا* حرّاس
بيهم* شارات* اليمّة* وجدنه* العباس*
تشهد ضرب البازوكا* بسوح* الميدان
حيّا الله يا اهل الغيرة ويا اهل الناموس
وشّحدّه* امريكي ايجرّب* للديرة ايدوس*
ان صارت بيها* ملاكه* ال نرخص* النفوس
يا محلا الموت بعزّة و مو* بالخذلان
حيّا الله اهل الفلّوجة الكلهم شجعان
ما دنّوا راس و ذلّوا للأمريكان
ارد* انخى* جدودي السّادة* ال ما فزعولي *
مورّد* المداد* العاجل شو ما جولي *
بأي السبب الأمريكي يصول يجولِِ
يا ابن الرفاعي* وينك وين ال كيلان *
حيّا الله اهل الفلّوجة الكلهم شجعان
ما دنّوا راس و ذلّوا للأمريكان
وساعد ماجد فى هذه المهمة كثيرا صديقى الأبدى وليم أبادير الذى يظهر طوال عمر صداقتنا الباقية من أربعين سنة مهارة فى كل أمر يدخله دائرة اهتمامه ، فبسرعة البرق جمع مفردات العامية العراقية برغم الفترات القصيرة التى كان يقضيها بالعراق ، فقد كان يجىء لزيارتنا كثيرا من أجل الزيارة فقط، ولم يكن يصمد طويلا فى الغربة كما كان يسميها ، ولم يكن يستطيع بالمقابل الصبر على افتراقنا ، فكان يقضى معنا كل عام شهرا كاملا ، وكنا نغلق الغرفة الخاصة به فى بيتنا بالفالوجة فى السنوات الأولى حين يعود لمصر ، ولا يجرؤ أحد على العبث حتى بمقبض بابها بغير وجوده ، والكل يحرص أن تنظف وتفتح نوافذها كل أسبوع لتطهيرها بدخول الشمس على المقعدين المجاورين لسريره ، حريصين على غرفة عمو وليم ، إنه إنسان جميل جدا يامنار هذا ال وليم لدرجة أنى أطلقت على أعز أبناء خالى زين العابدين وأقربهم لنفسى وهو خالد الصيدلى إسم وليم ، للشبه الواضح بينهما من بنيةالبدن وكتمة الحروف فى تجوبف الأنف عند الكلام وزرقة العينين ، حتى توترات أصابع اليدين وقت الفرح وشعر الرأس الذى لا يقصانه إلا نادرا لنعومته وإضفائه كثيرا من الوجاهة عليهما وصار الكل بالمنطقة لا ينادى خالد إبن خالى سوى بوليم ، ثمة رابطة روحية جمعتنى به وقت مرحلة التجنيد بالجيش ، أثناء تكدسنا بمستعمرة الجنود بالهايكستب طوال فترة التدريب صيفا ، ولما هجمت علينا قوافل البعوض وكأنى كنت مهيأ أن أصاب بملاريا ، وزادت حدتها لإهمال إسعافى ، وكنت أروح بغيبوبة مرات وينتفض جسدى بالرعشة ،وأفقت مرة لأجده يجلس بكليته فوق ظهرى وغطاؤه الميرى مع غطائى يلفانى به إسكاتا لانتفاضات الجسد المحموم ، والأغرب أنى وجدته يبكى وعيناه محمرتان ، يبدوا أنه كان يبكى منذ فترة طويلة ، والجنودعلى فرشهم متناثرين على أرض العنبر الكبير يغرقون فى نوم من إرهاق التدريبات التى أعفيت منها بالقطع أنا ووليم حسبماعرفت إلى أن تم نقلى إلى المستشفى ، وحين كان يتسلل وحيدا كل ليلة ليطمئن على ويعود قبل إتمام الصول عنترسليط اللسان على عنبر المستجدين فأنت تعرفين أن وليم أبادير فر هو الآخر عن طريق سوريا لما صار واضحا وقوعه بأيدى الأمريكان وقد اهتدوا إلى تغير نوعى فى عملية زرع الألغام تحت المركبات والآليات الأمريكية ، كان هو الذى يقوم بها ، وحين كان خالد وماجد وصهيب ينتحيان لأداء ركعتين قبل البدء فى أى عملية استشهادية ، كان هو يقف منتصباعلى باب الغرفة يرسم علامة الصليب ويرتل باسم الآب والإبن والروح القدس تراتيل العون والمدد والمباركة ، ولماكان من المحتم عليه أن يغادر بغداد استغل إتقانه للإنجليزية وحذقه فى التعامل بلباقة مع الآخرين وأوقع فى شباكه بعضا من الأمريكان المصاحبين لقوات الغزو فى مهام إسنادية واستولى منهم على دولارات استعان ببعضها فى عملية التسلل والعودة وترك البقية فى يد كريم وهو يودعه ، هوهوكريم الضاحك دائما ، كتم وليم فمه بكفه حين شرع فى تشنج وبكاء صاخب وهو يدس الدولارات بيده وتوادعا خوف افتضاح أمرهما ، ونظرإلي بعيون حزينة ولائمة ، وقال كلمته الإخيرة قبل أن يتسلل فى شرايين العراق وكأنه خبيربها ليعود إلى مصر
:- اللى بيدافعوا عن شرفهم وبلدهم ياكريم ما يبكوش ولو كان الموت راكبهم
تمت تلك الليلة الأولى بعد خروجى من المعتقل على خيروالحمد لله وأصروليم على العودة إلى القاهرة برغم غضبة أم حازم ومناروهيام منه ، والتمنى عليه أن يظل ليوم أو يومين فى ضيافتنا ، فكان يهزم حججهم ، ويرطب غضبهم ، بأنه لا يستضاف إنسان فى بيته ، ولكن أمى التى نادرا ماكانت تعلق على مواقف مثل هذه أشارت بعصاة يدها الأبنوسية، وقالت
:- متخلوش الوادأبوشعر ناعم يروح ، خلوه يومين هنا ، على الأقل دا عيش وملح ، صحيح العشرة ما بتهون إلا على إبن الحرام .




12

هوا صحيح الهوى غلابّ ياحسن ؟...


أين أنت ياحسن أنا بحاجة ماسة إليك ...؟؟
كتمت نغمة المحمول ووضعته على الصامت كي لايصل لي صوته،. بقي هكذا منذ يومين ، لكني كنت أختلس النظر إليه ياحسن حين تضئ شاشته وتهتز.. أحيانا كنت ألتقط الجهاز وأنظر في الرقم الذي يظهر على الشاشة، وأحيانا كنت أتعالى ، أسحب جسدي بتثاقل وأنهزم خارج الغرفة وأترك أمي تنادي بصوتها العالي
:- ردي على الموبايل ...
أهو الحب يا صديق روحى؟ ، علمني . فأنا جاهلة في الحب ولا أمتلك أية معلومة أو ثقافة عنه مثلك ، وأنت المشهود لك بباع طويلة فى العشق والهوى ، حتى لو تغلف بهوى البلاد والبشر وحب العمل السياسى والنضالى ، وما قصتك والراحلة الرائعة نادية بغير مخفية على أحد من رفاق جيلك من سبعينات القرن الماضى بمصر ، وكما حكيت لنا كثيرا عنكما ، قل لي كيف يأتي وكيف يكون شكله ومحتواه ؟
صف لي لونه . أعتقد أنه بلا لون ، لكنه بنكهة لذيذة ألذ من كل طيب الدنيا
هو الحب ياحسن ، وقعت في فخه دون أن أشعركأنه ملاكا هبط على روحي من السماء .
المحمول يرن ياحسن وأنا أنظر إليه وأخشى من الرد ، يتملكني شوق جارف ولهفة غير اعتيادية أن أفتح الاتصال معه وأسمع صوته ، وحين يسألني عن قراري وهل بدأت أحبه وأبادله الشعور أم لا ؟.
أشعر بشوق أن أفتح الإتصال معه وأقول له نعم حدث ما لم أتوقعه ، هاأنت ذا تدخل قلبي بدون استئذان ، في وقت خارج الفلك والزمن والكواكب والسراب، أحببتك رغما عني وعنك.ولكن.
يأس هو من إهمال منى لاتصالاته وعدم الرد عليه فباغتني( بمسج )على الموبايل بكلمات مقتضبة أتخيل أنه كتبها وهو حزين، يائس
:- أنا مسافر بعد غد.
كدت ألتقط الموبايل وأتصل به ، أو أكتب له رسالة أقصر ، وأصرخ فيه
:- أنا أحبك ، لاتسافر ، سنسافر معا كما أردت .
تراجعت ياحسن واللهفة تقطعّ أحشائي ، والحزن يمص من دمي ، وفي الوقت عينه أشعر بسعادة غامرة وبنشوة كبرى أنه يحبني.
أنا حائرة ياحسن ، لاأعرف ماذا أفعل ، وكيف أتصرف ياصاحبي ، أنا أحبه ياحسن ، أحبه ، ولكنه متزوج ، وأنا عاهدت نفسي أن لاأكون الرقم الثاني في حياة أي رجل ، أن أكون أنا سيدة قلبه فحسب ، لن أستطيع أن أكون رقما آخر في حياة مروان ياحسن ، هل تفهمني ...؟؟؟
قال لي سآخذك ونرحل بعيدا ، نعيش معا في السويد أو أية دولة أوربية ، بعد أن نقدم طلبا للجوء على أننا مضطهدون من قبل حكومة بلادنا ، ولأن سلطات الاحتلال الأميركي يبحثون عنه ويخططون لإلقاء القبض عليه كونه المسؤول الأول عن هجمات كثيرة تعرضت لها عجلاتهم وآلياتهم وجنودهم .
مروان ياحسن فارس شجاع من الفرسان الذين تسمع أو تقرأ عنهم القصص والروايات أو في كتب التاريخ ، إنه لايمر يوم دون أن يأتى لي بقرص سيدي مسجل فيه عمليات مسلحة لتدمير همر أو إلية من آلياتهم.
أقنعته بعدم السفر أو طلب اللجوء ، وتعهدت أن أجد له مكانا آمنا بعيدا عن أيدي المتربصين به ، وأقنعته بالسفر القصير إلى إحدى الدول المجاورة ، وافق على قراري لكنه اشترط علي أن أصطحبه في سفره على أن نعقد القران في الدولة التي نقرر السفر إليها كونه لايستطيع الظهور في أي مكان عام لنشر صوره ، والخوف من أعين العدو وجواسيسه
وأنا أكتب إليك هذا (الايميل) أشعر أني أختنق والدموع تكاد تترقرق من عيني ، وأنا حائرة غير قادرة على اتخاذ أي قرار.
هل أتخلى عن واجبي وأذهب معه إلى مكان آخر آمن؟
أم أبقى في بغداد وأعيش حياتي كما كنت أفعل طيلة سنوات الإحتلال ، أذهب الى المدرسة صباحا وإلى الجريدة مساءا ، وأجلس على النت لأتابع الإخبار وأتصفح المواقع وأكتب لك ايميلات مع تأدية بعض الأمور المنزلية؟.
هل أتخلى عن قلبي أم عن واجباتي ياحسن ؟؟؟
ليس فى مقدوري أن أختار بين اثنين ، أحدهما أعز من الآخر. لكن حب الوطن ياعزيزي دائما يفوق حب الحبيب والإبن والأخ
الحبيب يتعوض ياحسن لكن الوطن لن يأتي إذا سقط في يد الغزاة ، إذ الم يقاوم أبناؤه، إذا غادرته من أجل قلبى فقط يكون الوطن قد سقط السقوط الأخير بسقوطه من قلوبنا.
وأنا أستمع إلى كوكب الشرق أم كلثوم ( هو الصحيح الهوى غلابّ ما اعرفش انا)) ، يتناهى إلى سمعي صوت مروان وهو يقول لي
: - استحوذتي على قلبي من اللحظة الأولى ، كنت أتابعك ، وأنت تنطين بين الفينة والأخرى إلى مقهى أنترنيت يقع في اليرموك ، أجلس قبالتك وأتامل في عينيك إلى أن تغادرين .
لم أكن أجرؤ أن أتكلم معك ، كان هناك دائما ما يمنعني عنك ، شخصيتك القوية وروحك التي تخفق عاليا في سماء حب الوطن
تصور ياحسن من مفارقات القدر أن أكون معتقلة مع مروان في زنزانة واحدة لا يفرق بيننا إلا الأبواب؟ قال لي
: - كنت في المعتقل حين علمت أنك معتقلة معي ، وأنك مثلي تتعرضين إلى تعذيب نفسي .
لم يتمكن من لفظ الجسدي .وقال لي . إنه عاهد نفسه أن يثأر لي من أعين وجواسيس سلطات الإحتلال ومن كل من شارك في اقتيادي إلى المعتقل .
وأنا أنهي كتابة هذا (الإيميل) لك ، صوت أم كلثوم وهي تشدو من كل قلبها ، يهزني من الأعماق ويحرك ساكنا في قلبي وسؤالا
:- هوا صحيح الهواء غلاب ّ ياحسن ؟
ما اعرفش انا




13

وهل يعرف الماء بالماء يامنارةالروح؟


أولايجب أن أعترف أن إيميلك الأخيرسبب لى ارتباكا واضطرابا لم أشعربه منذ سنوات طوال ، ولا حتى أيام الملاحقات الأمنية المتواصلة التى كان يقوم بهارجال الأمن أيام السادات لنا ، وحين كنا نتخفى فى بلاد ومدن بعيدة وقصية لم نكن لنسمع بها سوى من أبنائها ممن كانوا زملاء دراسة بالجامعة ، فأنا مرتبك ومضطرب لأنى من المفترض الردعليكى بشأن التحويل الذى أرسلته زينب سلمان ، وهومبلغ لا يستهان به ، فيجب التوصل إلى وسيلة آمنة لتوصيله لكم عن طريق حلب ، واليوم وبالمصادفة إتصلت بى كلنار الرسامة التشكيلية الكلدانية والعراقية حتى النخاع لتخبرنى أنها قادمة من لاهاى حيث جغرافيا المهجر الخانقة ستشارك ممثلة للعراق فى سبموزيوزم إهدن بلبنان والذى ينسق أعماله صديقى الفنان التشكيلى المصرى أحمد الجناينى ، ومنه ستنطلق إلى دمشق أو هى ستذهب إلى دمشق أولا ثم إلى لبنان وبعدها تعود للمشاركة فى معرض الشجرة للفن التشكيلى الذى تقيمه وزارة الزراعة السورية كل عام لمدة شهر، ففكرت أن أعرض عليها الأمر بحمل المبلغ وتوصيله لكنعان بحلب ، وعن طريقه سيتم تدبيرحكاية إرسال المبلغ إلى الموصل أو بغداد حسب الطريقة التى ذكرتيها ، أنا منتظرمنك ردا الليلة ضرورى ، وضرورى جدا إن لم تسعفك شبكة الهواتف المحمولة التى صارت أضعف شبكة فى المنطقة بعد أن كان الكل يحسدكم عليها ، لا بدأن يكون لدى ردا جاهزاومقنعا لكلنار، وآمنا أيضا كى لا ترتبك ، فهى برغم استعداداتها القصوى ، والتى أثق بها جيدا لا تحتمل حتى أن يصرخ أخيها الصغير بوجهها ، ولكنا سنحاول طمأنتها أن لا تجازف هى وتحمل معها هذا القدر المزعج من الأموال ، وهى التى يربكها عشرات الدولارات بحقيبتها لاتدرى كيف تتصرف لوأرادت شراء أبسط الأشياء .
عموما لقد ظهر طارىء جديد، قد يكون جيدا ومفيدا فى هذا الاتجاه ، وإن كان وكأنه ينخلع من قلبى ، ولا أدرى لم أنا هذه المرة مضغوط الفؤاد وصدرى ضيق وثمة هاجس خفى يخلخل عضلات قلبى ، هل لأنه خفى وغير مدرك ؟ أم لأن ما خفى كان أعظم كما يقال؟
لقد أعلن وليم وفجأة قبل أن يودعنا عائدا إلى القاهرة ورافقته مناروهيام حتى تطمئنا عليه وهويركب أتوبيس هيئة النقل العام وتسلما عليه ، قال إنه سيسافر إلى سوريا ، ويتوجه إلى اللاذقية فى ضيافة ابن خالته المتزوج من ميسون السورية والمقيم هناك منذ الوحدة بين الشطرين السورى والمصرى وليكون قريبا من أصدقائه بالموصل لوهتف هاتف لضرورته ، أخبرتنى منار أنها طوال الطريق حاولت إقناعه الإقلاع عن الفكرة لأنها تدرك نواياه البعيدة من أنه يودالتسلل والعودة لأصدقائه فى بغداد ، وقد استدرجته حتى علمت أن رسالة بالايميل وصلته من أحدهم بحاجتهم إليه وأنه باستطاعته الوصول إلى الموصل عبر دروب حدودية مع اللاذقية سيتولى واحد من الجبوراستقباله ، واحد من الجبور يامنار نعم . فليس سوى قلة منهم من يتعاونون مع المحتل ، وأن وليم قرر أن يلقى كلنارباللاذقية قبل سفرها لبيروت ويستلم منها المبلغ المرسل من زينب. هل تروق تلك الفكرة لك ؟
رجاء الرد الليلة إن أمكن حتى أنسق معه وأبدى له موافقتى على سفره طالما أن اعتراضى عليه لن يجعله يقلع عن تلك الفكرة ، وهو ما تحاشى مناقشتهامعى طوال النهارالذى قضاه عندنابالمنصورة .
أمى مازالت تتعلق بك ، وتنظر إلى كل لحظة نظرات أفهم مغازيها ، لذا كان كلامك بالإيميل السابق مربكا لى كثيرا ، ولن أقدر على إبداء رأى غير مجروح فى أمر قلبك الذى تعلق بمروان.
هى أول مرة بالتأكيد يصل لسمعك تلميح مختزل بهذاالأمر ، ولشد ما أنا آسف لقوله ، لأنى أعرف مدى حبك لأولادى وزوجتى أم حازم ، ولكن
سأغالب أنا قلبى ، وأعيده للإيمان بقضيتى الكبرى أما أنت فلن أوصيك بهذا ، إفعلى ما يروق لك . فقط لا تتخلى عنا
أرجوكى
صرت نسيجنا الحى
صرت شريان العمرالقادم الذى عبره تتدفق الحياة للآخرين




14

قبل أن تدركنا الظنون

عدت من سريرى فجأة ، وأشعلت الضوءمن جديد . برغم أن ضوء النهار كان قد بدأ فى تسلله عبر شيش النوافذ العالية .
تذكرت أن أكتب لك إيميلا فى صيغة برقية
علَ عينك تقع عليه فتحاولى فتح نوافذ ضوء قلبك الحى دوما ليعمر به كل من حولك
لا تتخلى عن زيارة مرام بنت نجم سعيد مهما كنت مرهقة أو متعبة
فنجم يامنار صاحب فضل كبير كما تعرفين ، وكنا دوما نخبئه لحالك الأيام ، ولا تنسى أن تعرضى عليه نقودا إن شعرت بحاجته إليها ، وكان متبق معك ما يفيض
ولا تقفى فى وجه فاضل
خليه يبتعد ويخرج ، علًً الأيام تشفى جراحه ، وقبل أن تدركنا ظنون الأسى .
((ترى هل سأجتاز برزخ الهلاك ومطهر الحاضر إلى زمن آخر؟ أم علي أن أمضي قدما، وأدع كل شيء ورائي؟...)) .
هذه العبارة الذابحة وردت ضمن حديث عابر ليلة الأمس وبعد مغادرتك الماسينجرمباشرة مع صديقتى الكبيرة وأختى الأسمى لطفية الدليمى
كم هى آسرة بعذاباتها ، وقوية بجراحها مثلك منار
واقبلى دوما محبتى






15

امنحينى ليلة لتهيؤ جديد

منارة الروح
مازالت كلمات صديقتى لطفية ليلة الأمس تؤرقنى ، وهيجت الكامن فى أعماقى من موروث الحزن ،
(( من يمنحني وطنا لا يغص بالموتى والقتلة؟ متى يغادرنا الجنون لنغفو؟ متى يموت الموت لنحيا؟))
وهذا نهار ثان يلتحم بذيل ليله الذى انزاح ، ويبدو أنى سأقضيه غارقا فى ولعى بزيارة المقابر
فقد كانت زيارتها ومازالت بالنسبة لى حالة وجدانية بما فيها استعادة لذكرى الأحباء، ، وأنا نشأت على عادة زيارة القبور ، وكنا نغرس قبور الأحبة بأحبال مجدولة من عيدان الصفصاف الخضراءعشية العيد، ويوم شم النسيم .إنها شجرة مصرية بامتياز ومن ثم تأتي العائلة بأجمعها صباح العيد ونجتمع حول قبر آخر شخص فقدناه ، ونوزع المعمول على الفقراء ويهنئ أفراد العائلة بعضهم البعض حول هذا القبر ومن ثم يتوجه كل واحد نحو قبر الأقرب إليه.
من منطلق إيماني ، أشعر عند زيارتها بهذا التواصل النفسي الداخلي مع أحبتي لأنهم ما زالوا في ذاكرتي ، وأتمنى أن يزورني أحبتي بعد مماتي لكي أشعر باستمراريتي بين الأحياء . وأوصيت أم حازم بذلك ، وقد لا حظت ما طرأ على سلوكها من تحول جذرى ، من رفض لزيارة القبور ، وقد علمت أنها تجالس زميلات منقبات لها أثناء ساعات العمل الرسمية ، وذكرتها بحديث شريف عن النبى محمد ( صلعم)
: - (كنت قد حرمت عليكم زيارة القبور ولكنني الآن أقول لكم أن تذهبوا وتزوروها لأنها تنعش القلوب، وتجعل العين تبكي ، وتجعلكم تفكرون بالآخرة وبالدنيا ..) .
عندما أتضايق من أي أمر وأشعر بالاختناق منه لا أبوح به الا قليلا لزوجتي أو لأولادي ، لكنى أذهب إلى قبر أبي وأحدثه عنه ، فأبى في حياته أو في مماته يمنحنى الراحة ، فكلما وصلت إلى مفصل صعب في حياتي يحتاج إلى قرار أرى أبي في منامي ومن مجرد ظهوره استمد القوة.
ومن الملفت أن كل كتابة مندفعة في جريانها ، وجادة في مدلولها أمارسها بعد العودة من القبور مباشرة ولعدة أيام متوالية ، هل هي الرغبة بأخذ الحياة قبل أن يدهمني الموت ؟ ، هل هى مقاومة لتلك العبثية التي راجت في بعض أفعالي بعد مرض إبنى حازم الذي سيطول بسببه ، أو الذى لن ينتهى سوى بموته وهل ؟ ، ولكن الإجابة أظل أنا دائما فى غنى عنها ، لأن أبى قال لى على أرصفة المرارة من الحياة دائما
:- أطلب من الله دائما أن يعطيك ظهرا قويا ولا يعطيك حملا خفيفا
ولكن الزيارة التي أندفع إليها لا إراديا ، وفى كل مرة ، هي إلى قبر ( نادية ) التي كانت رفيقة أيامي المتوهجة بالشباب وحب الوطن ، التي ماتت في قبو بارد في سجن من سجون نظام السادات ، كما حدثتكم عنها طويلا ، وكم أنا ممتن لك لأنك مازلت تحملين فى ضميرك نصاعة صورتها التى قدمتها لكم منذ سنوات طوال ، أزورها لأشعر أمامها بالخذلان أنى تركتها تذهب ونجوت أنا بنفسي ، برغم أن ذلك تم بمعجزة كبيرة ، والغريب أن قبرها يقع على مرمى بصري يوميا ، فلا يحتاج الأمر لمناسبة للزيارة ، فقد تمت نجاتى من الموت ، لأنهم خيرونى بين انفصالى عنها فى الدنيا فقط ، أم انفصالنا فى الدنيا والآخرة ، ولم أكن أعى هذا السؤال حقيقة ، فظننت ، وكل الظن إثم ، أنهم يودون ايثارى بالترحيب المشهود لهم به ، لتخفيف عبء الكرم عنها ، وقد قالت لهم إن قلبها يوجعها ، ولما صفعها صاحب الثلاث نجمات وهو يقول
:- قلبك يوجعك وتظلى شيوعية لا تؤمنى بربك ؟
كنت ساعتها قد أُبعدت إلى حفل آخر ، ولم أشاهدها غير جثمان ملفوف بعد ذلك.
هى محطة لم أستطع للحظتى الآنية الاقتراب منها ، أو مجرد تلمس الحروف لصوغ ملامح منها ، فأغرق رأسى فى الكتابة مع ناس قريتى ، كمعادل موضوعى عن الأسى ، وأواصل التوحد مع المتوسلين بوهج الكتابة فى المدن العربية ، كتابا وشعراء وصعاليك
وفى زيارتي لقبرها حاجة نفسية وضرورية تشعرني بالأمان الداخلي وبأن الحبيب هو حي بعد وفاته ، فلا يشعر بأن الوفاة هي النهاية فينتهي أحد أسس إيمانه وهو أن هناك بعثا بعد الموت . ( من لا يزور قبر أحبته يعتقد أن الموت هو النهاية).
وفى كل مرة أشعر أن زيارة قبرها كما تمت بالداخل أيضا فقد سكنت الخارج فى ، فأندفع إلى الكتابة أيضا ملبيا رغبتها التى لم تر من آثارها شيئا ، وهى أن ترى أول غلاف لكتاب لى
هناك أخاطبها لمواساتها، والأصدق ربما مناداتها هي لمواساتي.
تواصلي معها فعل اشتياق وفعل ندامة وفعل اعتراف ومعاتبة ، لأنها تركتنى ألملم بهجتى بكل غلاف كتاب جديد خزيا ، لأنها لن تراه ، ودائماأ فعل حاجة ملحة لوجودها قربي ، ولكن ولسبب ما أعتقد أنها متفوقة وأكثر شاعرية ونقاء وصفاء منى ، وهناك من إله هى حتما سبقتنى إليه ، ولاترقب مجيئى ، وأسمع داخلى يرن بصوتها : أن إعمل وكأنى أفرح بك
الآن ، وبعد مرور سنوات على رحيلها ، حين أمر بالقرب من تلك المقبرة التي رقد جثمانها بها ، بين المئات وربما الألوف من البشر ، أذكرها وأتلوا آيات صغيرة وكلمات كانت تحبها لبابلو نيرودا ، وأغنيات كانت تدندن بها لصالح عبد الحي ، وبخاصة أغنيته الخالدة (غريب الدار عليا جار ) .، ولسبب ما كانت تكره أغنيات يكتبها أحمد فؤاد نجم ، ويغنيها الشيخ الضرير إمام عيسى ، وحين صار على امتلاك جهاز حاسوب ، وقررت إدخال أغنيات الشيخ عليها لم أتجاسر مرة واحدة على سماعها . والآن بعد أن نكأت جرحا تخثر الدم على أطرافه ، لا بأس من الجلوس على شاهد قبرها وكتابة تلك الرحلة الارتجاجية لجيلنا
الآن هل أنا بحاجة إلى زيارة القبور ورؤية الشواهد المنشورة في أرجائها.؟ ربما لا يكون لديكم الآن شواهد لقبور لكثرة تواليها فى زمن موت الحياة بالعراق.
مضى زمن بعد ممارستي لتلك الشعائر.
أخذ الموت أبي وأصدقاء وأحبة وكلهم ما زالوا في الوجدان والذاكرة. لا أعلم إذا كانوا يسمعونني . ما أعلمه ، ويقينا إن نادية التى قضت على أيديهم وأبى الذى كان يلاحق كتبى فى محطات التهريب على أسطح الجيران اتقاء سطوتهم ، يسمعانى ، فهما فقط من بكيا من أجلى في محن عابرة ، وأخيرا أخذ الموت فتحى عامر وأطوار بهجت ، ورغد صديقنا الحبيب إبن الأعظمية البطلة والذى استشهد قبل أيام ولم أجرؤ على محو أرقام هواتفهم من دفترى كما يفعل الكل ، لأن محو الرقم محو للذاكرة.
سأذهب إليهم لأعود محتشدا للكتابة لك بصفاء
فامنحينى ليلة للتهيؤ ، واعتنى كثيرا بسارة الحبيبة وقبلى جبينها قبل النوم مرتين ، واحدة منك ، والأخرى منى.





16

تضيق السباحة بين ضفتين


عزيزي حسن
كلامك عن نادية وعن أصدقائك الراحلين ضرب قلبى ضربا شديدا ، وما كنت لأعلم بمخزون هذا الحزن كم هو ثقيل بأعماقك ، و لن أخفيك سرا أن سفر مروان المفاجئ قد اثرّ على صحوة نفسيتي وهدوئها فلم أكن أدري أني سأقع أسيرة هواه بالسرعة هذه ، لم أكن أدري أنه جاد في قرار سفره رغم أنه كتب لي رسالة على المحمول ( أنا مسافر بعد غد) بعد أن أصابه اليأس من أن أرد عليه وعلى مكالماته الهاتفية التي لم تتوقف طيلة الليل ، كنت أخشي أن أضعف أمامه وأجاهر له بالهوى الذي بدأ يعصف بقلبي وأشعر أنه سيقتلعني من الجذور.أنا متعبة ياحسن وأشعر برغبة جارفة للبكاء . هل تتصور أن تبكي منار القوية الصلدة التي لم تبك في حياتها إلا في ذلك اليوم النيساني المشؤوم عندما اقتحمت عربات الاحتلال ومدرعاته مندفعة بهوس وشبق للخراب باتجاه بغداد وصعد أحد المشعوذين من ضعاف النفوس والذين انتموا إلى أحزاب سياسية صنعتها المخابرات الغربية لتكون أداة لاحتلال بغدادك الحبيبة ، يومها هويت أرضا وانغرست في نواح وعويل ، كانت الدموع تترقرق وتجري مثل جريان الماء في النهر.
الإنسان في حياته يبكي بحرقة مرتين ، مرة حين يفقد وطنه وكرامته وسلوى روحه ومرة حين يحب .
هل تعلم عزيزي أني لاأعرف الإسم الحقيقي لمروان؟ فلم أمهله حتى كي يصارحني بإسمه الحقيقي، المقاومون لهم أسماء عدة ، ومروان لم يكن إسما للشخص الذي أحبني وأحترق الآن لفقدانه ، كان وضعه حرجا لأنه مطارد وكان ينبغي أن يغادر المدينة بأقصى سرعة قبل أن تقوم سلطات الاحتلال وجنود الحكومة بمداهمة بيته واعتقاله بتهمة استهداف القوات الأميركية المحتلة وإصابة عددا من جنودهم . بل تحميله مسؤولية معظم الهجمات التي طالتهم في الآونة الأخيرة.
جهلي باسم مروان الحقيقي هو الذي سيضعني في موقف صعب ويتعذر على الاستفسار عنه عند الآخرين ، لكني لن أخفيك بـأني أتأمل عودته في أية لحظة . فليس مروان الذي يترك ساحة المعركة ويغادر أرضها ليعيش في مكان آمن ، ربما سافر لإنجاز بعض المهام في مكان آخر لكنه لم يعلمني به ، ربما أراد أن يتأكد من مشاعري نحوه
لست أدري.
أنا متعبة ذهنيا واعذرني إن تأخرت في الرد على إيميلك الأخير وقد أتاخر في الرد على الإيميلات الأخرى فلا تقلق
سأكون بخير، وسأشفى من هذا الجنون حتما .
استلمت منك ثلاثة إيميلات في اليوم ذاته واعذرني إن لم أتمكن من الرد . فكما قلت لك كنت في حالة نفسية سيئة . ليس بسبب سفر مروان وهواه الذي يسري في دمي . بل لأني كنت منشغلة بأمر هيثم في المعتقل والذي يعاني من حالة نفسية سيئة أيضا وأصيب بصدمة مروعة عندما نقل له أحد أبناء مدينته استشهاد شقيق خامس له وهو يهم بزرع عبوة ناسفة لأحد الأرتال الأميركية المتهيئة للعبور من أحد الشوارع الرئيسية في مدينة الرمادي
هيثم ياحسن فارس أخر من فرسان التحرير في هذا البلد ، أعتقل قبل ثمانية أشهر ليكون الإبن الثانى المعتقل للحاج عماد الدليمي ، هل سمعت يا أبا حازم عن أب يهب كل هذا الكم الهائل من التضحيات للوطن خمسة أبناء يستشهدون في غضون أقل من سنتين، واثنان يعتقلان ولم يتبق له من الأبناء الثمانية إلا ولدا واحدا فحسب؟.
هل تعذرني الآن يا عزيزي ، ألم أقل لك أن الحزن يقطع أحشائي ويمزقها من الداخل ، وحديثك المستعاد عن نادية وموت حلمكما حرق قلبى ، تعرفت إلى هيثم في أحد شوارع مدينة الرمادي حين كنت أزور خالتي نادرة التي تسكن هناك منذ أعوام ، كان قد ترجل من سيارة فيها أربعة من شباب بأعمار متقاربة ، وقام بزرع عبوة ناسفة في الطريق ثم ابتعدت السيارة وعاد بعد أيام أخرى ليزرع عبوة غيرها في مكان أخر ، وكنت قد قررت أن أتبعه ، فضولا مني لإجراء لقاء صحفي للجريدة التي أعمل بها ، أو لأخبر ماجد إبنك بأمر رفاق من عمره يواصلون ما بدأه مع رفاق آخرين ، ولتطمئن روحه المرهقة بلا شك، ومنذ ذلك الوقت توطدت علاقتي معه، وكنت أتولى نشر ما يرسله لي من أقراص( سي دي) تضم عمليات مسلحة يقوم مع جماعته بتنفيذها ..
هيثم متعب يا حسن ويعاني من صدمة نفسية بسبب اعتقاله في معسكر بوكا ولفترة طويلة جدا حسب ما جاء في الرسالة التي بعثها لي مع أحد المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم .
عزيزي
لابأس إن تم إيصال المبلغ إلى حلب عن طريق ميسون . سأتولى بنفسي استلامه من هناك ، تعلم أن الوصول إلى حلب عن طريق الموصل سهل جدا بواسطة حافلات نقل الركاب ، إنقل تحياتي إلى كلنار وميسون وشكري لهما وسعادتي بالتعرف عليهما عن طريقك ، ولا تنسى تحيتى لصديقك الفنان أحمدالجناينى الذى استوعب الأمر سريعا وساهم معك فى تصريف الأمور.
أتفق معك بشان موضوع وليم وأنصحك إقناعه بعدم المجازفة بمحاولة التسلل عبر الحدود السورية والدخول إلى بغداد حتى ولو بالطريقة الأصولية ، فأنا لن أضمن له عدم اعتقاله من قبل القوات الأميركية الرابضة على الطريق بين الحدود وطريق بغداد والتي تتولى اعتقال أي مواطن عربي بتهمة الإرهاب والزج به في السجون كما حصل مع فائز الأردني الذي جاء قبل شهرين ونصف لزيارة شقيقته راقية المتزوجة من الفلسطيني رامي . فتم اعتقاله بتهمة التسلل لتنفيذ عمليات إرهابية داخل العراق . علاوة على أن الطريق محفوف بمخاطر وجود تنظيمات مسلحة غير معروفة تقتل المواطنيين على الهوية ، طرقنا لم تعد آمنة وصارت مصيدة رهيبة ، يستقبلناالموت إذا ما سلكنا أيا منها ، حاول يا حسن أن تقنع وليم بعدم المجىءإلى بغدادأرجوك، لن أحتمل خسارة أخرى .



17
(مرينا بيكم حمد)
قوس النصر المهزوم

مساء سعيد يا حسن
كان يرتدي بدلة المحارب وفي يديه السيف ، يحيط به العساكر والجند ، أحاطو بي من كل حدب وصوب وكنت أقف في مركز دائرتهم وعيونهم تقدح الشرر تتربص بي ، قال لي أحد الجنود
:- إسمعي فقط ولا تتكلمي أنت في حضرة الخليفة المنصور أبو جعفر
سبق أن حضر كلكامش في المنام وطلب مني استفسارا عن كل ما يحدث في بغداد ، لكن الوضع مع حلمي الأخير مختلف ياحسن ، منذ أن أسقطوا تماثل أبو جعفر المنصور وإنا غير قادرة أن أدخل إلى بغداد وأتمشى في شوارعها أو أتمعن في وجوه الناس فيها، أراه يعاتبني ويحملني مسؤولية ما يحدث
:- لم تصونوا تمثالي فماذا لولم أكن خليفة لكم ؟
لا أرغب أن أقص عليك ما يجول في رأسي من أحلام وكوابيس مزعجة رغم أن لاجفن لي يغمض أكثر من دقائق معدودة ، فبعد اعتقالي ومداهمة المنزل بتلك الطريقة الوحشية لم أعد أشعر بمتعة في النوم وأظل مستيقظة أتابع أية حركة أو طقطقة في الباب.
أصابتني الدهشة وأنت تتحدث عن الأرق وعدم قدرتك على النوم وتساءلت ماالذي يمنعك من النوم في بلد لاتُقتحم فيه غرفة نومك ولا تٌداهم سريرك بربرية محتل غاصب؟
توقفت لحظات عن الكتابة فصوت أياس خضر الذي كان يطربنا معا ، يتناهى إلى سمعي من غرفة الصالة وهو ينشد الأغنية التي كنت تردد كلماتها وتدمدم بها أثناء تواجدك في بغداد ، ولما رحلت فى مهمة علمية لشهور إلى عدن راعك هناك فرقة الطريق وهى تشدو بها مع إسقاط كلماتها على محاولة الحزب هناك فى بناء حلم اشتراكى تربص به الكثيرون ، (مرينا بكم حمد وإحنا بقطار الليل)
لا تحاول أن تصر وتلح في أن أصف لك الوضع في بغداد ولاتسألني عن أمكنة كثيرة تشتاق وتحنّ إليها. فبغداد التي عشت فيها بالأمس وعشقت تماثيلها وشواخص الحضارة فيها تدمرت ، سوق الشورجة التي كنا نذهب إليه مع أم حازم أكلتها الحرائق والتهبت محلاتها وعماراتها فلم تعد سوقا يجذب الزبائن . المفخخات تقف قاب قوسين أو أدنى، وأعتقد أنك سمعت بالدمار الذي لحق بسوق المتنبي والمكتبات التي التهمتها الحرائق أيضا ويؤسفني أن أبلغك لن يكون بإمكاني توفير ما كنت قد طلبته مني من الكتب في اعتقاد منك أن أبو الطيب المتنبي لن تحرقه النيران ولا المفخخات . إنهم أعداء الثقافة ياحسن وأعداء الحضارة والتاريخ.
نعم
قوس النصر هو الآخر معرض للتفليش والإزالة من قبل كوادر الحكومة ، وأتوقع أن تزيل كل أثر يؤرخ ليوم عظيم أو إنجاز خالد أو معركة باسلة خاضتها بغداد دفاعا عن أخواتها من العواصم العربية
ترفق بي يا صديقي الحميم فقلبي يوجعني وأحس بالانهيار. فلا تكتب لي إيميلا وتسألني كيف هي بغداد ولاتسألني عن المتنبي وجسر الرصافة والأعظمية وباب المعظم وبرج صدام .
سأنهي إيميلي إليك فأنا مرهقة وأشعر أن جسدي أصبح فريسة للمرض ولن أخفيك سرا، أشعر أن مروان كان مثل الريح العاصف . هب ليقتلعني من جذوري ويمضي دون أن أتمكن من اللحاق به.
قبل أن أطوي صفحة( الإيميل) وأرسله لاأريد نسيان ما كنت أود إبلاغه لك في بدايته. لكن قراءتي لإيميلك الأخيرالحامل استفسارا ملحا عن بغداد وثمثال أبى جعفروكهرمانة ومكتبات المتنبي أنستني موضوعا مهما كنت أروم إبلاغه لك . فأنا قد كلفت طيف إبن خالتي الذي ينوي السفر إلى الشام عبر المنفذ الحدودي الربيعة من المرور إلى مكتبة (س) في حلب لاستلام الأموال التى أرسلتها زينب سلمان مع كلنار عن طريق وليم . فقد اتصل بي صاحب المكتبة وأبلغني بوصول حوالة نقدية لي وطلب إرسال من أخوله وأثق به لاستلامها . وطيف خير من يتكفل بهذه المهمة ، سأستلم الأموال وأسلمها إلى قتيبة وهو يتصرف في توزيعها على الوجه الصحيح ، امتناني الكبير لك ولزينب ..



18

بغداد ظل الله
حيث تنزلت روح. وضوء مستحيل

يامنار الحارقة الكلمات
يجب النظر إلى تفجير تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد برمزيته الحقيقية. صاحب التمثال الذي أعده صديقى الفنان خالد الرحال هو باني المدينة وليس أي شخص آخر
وهنا تكمن بالضبط رمزية الجريمة.
لا شك في أن عملية نسف النصب الذي يخلد مؤسس هذه العاصمة ، وكما شاهدنا تمثال صدام والأمريكان ينزلونه من عليائه ، والتى كانت خطوة في نسف ذاكرة المدينة ، مثلها تماماً مثل عملية نهب موجودات متحف بغداد لحظة الاحتلال الأميركي للعراق ، وقدكانت من أقسى المشاهدعلى وأنا أتابعها
لكنها وإن كانت مثلها، إلا أنها تتفوق عليها في اللحظة العراقية الراهنة.
لا يتعلق الأمر بمصادفة حدث التفجير يامنار الحبيبة مع المحاكمة الهزلية لصدام حسين، لذلك هى تفصيل في المشهد العام.
هل من قراءة أيتها العزيزة لتلك الرسالة التي عبرت عنها العبوة التي استهدفت النصب الذي يتوسط حي المنصور؟
وآه من حى المنصور وأيامه الخوالى الجميلة ، آه من تسكعنا نحن قلة من كتاب عرب وعراقيين وفنانين وهواة وصعاليك به ليلا وبمقاهيه العتيقة.
إن بغدادك عندما تسلم عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبا جعفر المنصور، السلطة، أدرك ضرورتها القصوى كتعبير عن الطموح ، ليس فقط إلى بناء عاصمة للدولة العباسية ، بل عاصمة كونية للعالم الوسيط . كل الرموز التي سبقت وواكبت وتلت إنجاز البناء الذي استغرق سنوات أربع ، كان يعبر عن كينونة هذه المدينة التي تبدأ معه ، وتستمر حتى فناء الأرض وما عليها.
ومنذ اللحظة التي انتهت فيها عملية البناء التي احتاجت إلى جهود عشرات الألوف ، أخذت تخرج عن نطاقها المرسوم ، النطاق الدائري الذي بنيت على أساسه كرة الكون ومركز دائرة الأرض.
لم تستطع المدينة لمجرد إنجازها أن تستوعب المتدفقين عليها من أربع جهات الإمبراطورية فكان أن خرجت إلى الكرخ والرصافة وغيرهما.
و هل تذكرى ليلة أن جلسنا نطالع بصوت مرتفع ، ومهند شقيقك يحتج علينا فى كتاب الخطيب البغدادي في مجلداته الثلاثين ، وكانت بغداد فيه هى خلاف البصرة وخلاف الكوفة، وبالتأكيد لن تتماثل مع واسط التي بناها الحجاج بن يوسف لمحاذرة تمازج جنود بلاد الشام مع القبائل والموالي العربية وغير العربية في المدن السابقة.
كانت بغداد تعبر عن عظمة المدينة العربية الإسلامية في العصور الوسطى، بما هي مدينة ليست للون أو لجنس أو لعقيدة . كانت مجمعاً كونيا يحضر إليها المسلم، العربي والفارسي، الزرادشتي، المسيحي، الآشوري، اليهودي وغير هؤلاء ممن ضجت بهم.
عزيزتى منار
قد يبدو مثل هذا الكلام تاريخياً ، لكنه وإن كان كذلك إلا أنه في الوقت ذاته راهنا . منذ قيام هذه المدينة ، ورغم ما عانته في حقبات مختلفة، إلاأنها حافظت على دورها عاصمة للإمبراطورية، حتى في زمن الدويلات، ثم في عصر الاحتلالات وانحسار الدولة، ظلت عاصمة للبلاد.
من الصعب، إن لم يكن من الاستحالة، أن تشغل أي من مدن العراق محلها.
ينطبق الأمر على مدن الشمال ، كما هو أكثر صحة على مدن الجنوب . اذاً، رمزية التفجير تنبع من هذه الواقعة بالضبط ، سواء كانت جهات (تكفيرية)أو (منظمات شيعية متطرفة) أو طوابير أميركية هي التي قامت بالتنفيذ. لا يمكن أن ينهض العراق موحداً إلا على قاعدة بغداد، حيث لا صفاء طائفياً . التقسيم تحت مسمى الفيدرالية على أساس مذهبي أو عرقي لا يمكن له أن ينجح وبغداد حاضنة الشمال والجنوب والوسط.
بتعبير آخر . الأكراد والشيعة والسّنة ومن عداهم أيضا . بهذا المعنى يصبح التفجير نوعاً من الانتقام من المؤسس، الذي يستحيل معه القفز فوق موقع ومهمة هذه الحاضرة في تاريخ العراق.
المسألة يامنار أبعد من الثقافة والفن الذي يتعرض للإبادة.
إنها محاولة لوأد دور مستقبلي وإن كان حتى اللحظة يفتقد قواه.
نسف تمثال أبي جعفر المنصور هو القتل الرمزي المتكرر للمدينة ، كما يحدث كل يوم.
وماذا نقول فى هذا الإعتذار المقدم لأبى جعفر المنصور ، والذى قدمه الشاعر الكبير حميد سعيد أخيرافى أحدث قصائده اعتذار لأبى جعفر المنصور
إليكِ أحملُ من حديثِ الماءِ..
سيّدتي وَصايا
هي ما تبقى من حريرِ القولِ.. أووشم المرايا
بغدادُ..
لؤلؤة مُبجّلة يشوه سحرها.. وحشُ الخَطايا
* * * *
أورثتنَا حُلماً جميلاً..
أيها الحلمُ الجميلُ
مُذ جاءَ عبد اللهِ يحملها الى الضفتينِ..
شَمساً
وهي في ماء الصباحاتِ الجميلةِ تستحمُّ..
ولا يَمسُّ ظِلالها البيضَ..
الأصيلُ
لا أتصور أنك تنسين حميد سعيد وفضله على مثقفين كثر فى العراق برغم ما اعتور رحلته من مآخذ ، ولكنى لا أنسى انبهارى به على المستوى الإنسانى حين كنت أطالعه لحظة مرورى أمام صحيفة الجمهورية كل صباح فى توافق غريب مع دخوله إليها وأنا آخذ طريقا إلى الجامعة المستنصرية لمتابعة ورش التدريب على الإخراج المسرحى التى أديرها كل يوم . أولإلقاء محاضراتى على طلاب وطالبات فنون المسرح الذين امتلأت بهم أرض العراق الآن وشرايين حقول إبداعها ، وفى شارع المنصور الذى كنت أطوع كل خطط سيرى لأعبره يوميا وكأنى مربوط بخيوط سحرية إيه ، والنظرات العابرة التى كنت ألقيها على تمثال المنصور ، وكأنها كانت ساعات للتأمل صباحية
الآن أعود ياعزيزة قلبى ورائعته من خيالى المحلق إلى وليم الذى سافربالفعل والتقى كلنار بسوريا بالفعل ، واتصل بنا هاتفيا فلم يجدنى ، فاتصل بالهاتف المحمول ظانا أنى أحب حمله ، وقد نسى امتعاضى من هذه القطعة الحديدية التى أشيع أن حملها سبب لى إرباكا بضربات القلب ، ولأن قلبى أصابه الإجهاد منذ زمن ، فتوجست منه خيفة منذ البداية ، ونمت الكراهية بيننا ، ولما ردت عليه منار ، زعق بوجهها وقال :
:- قولى لهذا الخبيث أبوكى إن فلوسنا مش فلوس يهود عشان كل ما اتصل به ما لاقيهوش ، اناباتصل من سوريا حرام عليكم ، وبفلوس .
وخاف أن يخبرها هاتفيا بأمررسالة كلنارالتى حملتها من زينب سلمان ، ولكنه فى مساء نفس الليلة كان قد وصل لحلب وهناك التقى بنزار وذهب الى داره بالضاحية الساحلية ، وفتح الإنترنت من عنده لأفاجأ برسالته وأنا أكتب لك هذا الأيميل
كم هى مخيفة ومؤلمة ومربكة رسالته يامنار
إقرائى :
\ عزيزى حسن
برغم محاولاتك صرف يقينى وعزيمتى عن السفر إلى بغداد إلا أنك لم تفلح ، فقد كنت أدبرأمرا مزدوجا مع كلنار اتفقناعليه ،وهوأن نلتقى بعيداوفى أرض محايدة لنعلن عزمنا الزواج بعد شوق طال ،وبأقرب كنيسة هنا سنشهر زواجنا ، بعدأن ذللنا كافة الصعاب الدينية والطائفية مسبقا ، وأن أمضى معها إلى حيث تقيم بغربتها بعد أن أوصل النقود التى حملتها من زينب الى نزار ليوصلها لكم بالموصل ، ولكن خبر المرض الذى أصاب جسد زينب حرق قلبى ، كيف لهذا العملاق الآدمى أن تخفى عنا طوال هذه الفترة آلامها وترقب نهايتها القاسية؟
كيف بالله عليكم أن يقتحم الألم روح وجسد من منحت العشرات والمئات من عبق روحها الطمأنينة والأمان ؟
زينب تنوء بحمل آلام جسدها ياحسن ،وكأنهاالعراق حقا ، وكلنار الكلدانية بكت على صدرى أنا الأرثوزكسى المصرى لتمتزج ملوحة دموعنا من أجل زينب المسلمة الشيعية
لن أنسى لزينب مافعلته معى بفندق شاهين الصغير بالمسبح حين غضبت منكم لبعض الوقت وذهبت إليه متدللا عليكم ، فوجدتها قد سبقتنى وسددت حساب إقامتى به لأسبوع قادم .
وحين أتت تزورنى فى نهارثالث ووجدتنى ممتعضا من طعام الفندق ، تركتنى متسللة لقليل من الوقت ،وعادت مسرعة بسيارتها تحمل من صنع أمها العنبر فى وعاء كبيرومغطى بالصنوبرودجاجةكاملة مقلية وكيس البرحى وطبق الدولمى المغطى.
آه أنا مقطوع شريان البهجة ياحسن ، موجوع القلب من أجل زينب)
هذا هوالجزء الهام من رسالة وليم صديقى الذى لم أستطع لحدالآن سماع صوته ولا التعرف على ماانتواه كل ما أعرفه الآن أنه فى صراع داخلى لا يحتمل ، كلنار متعجلةالسفرإلى بيروت للمشاركة بسمبوزيوم إهدن الدولى للفنون ،وهو يود إنهاء مراسم زواجهما بالكنيسة الأرمنية بحلب ،وهى ترجوه انتظارها حتى تعود إليه من رحلة بيروت ويقيما معا طوال شهر مشاركتها بمعرض الشجرة بسوريا .
وهوعازم من جديد على دخول الموصل التى توصل إلى طرقها ومساربها عن طريق صديق بدوى خبيربها .
لا أعرف ماذا أفعل يامنار
أنا فى دوامة وحيرة بين زينب التى أخفت آلامها عنا وكلنارالتى صارت تحادثنا بعبارات تلغرافية مختزلة ومتألمة النبرات ، وبين هذا الذى يشتتنى كثيرا لهوجائية تصرفاته التى لم أعد بقادر على السيطرة عليه ، كم أحبه هذا ال وليم العجيب ، وكم بكت منار الصغيرة دوما عندما قرأت إيميله ،ولما سألتها عن السبب قالت :
:- عم وليم دا راجل قديس ، ولكن حظه حظ عفاريتى ، يعنى مفيش فيه بركه
سآتيك عبر الماسينجرفجرا أيتها العزيزة ، فعسى تسعدنا الكهرباءعندكم وترفق بحالنا،ونستطيع التقاط همسنا وأنيننا ، أنابحاجة لصوتك المشع باليقين يامنار، بحاجة لمكمن عزيمتك كى أتقوى على مغالبة القهر الآتى من زينب ومرضها المفاجىء ، ومن هذا العته الذى يحدث هنا بمصر من محاولات هزيلة لصنع حالة توريث الحكم باسم الدستور والقانون ، والساحة المقززة بشخوصها ومن يلعبون بها من أدوارساذجة وعبيطة ومشكوك بها من رجال أحزاب تسمى معارضة أومستأنسة أومن رجال الحزب الحاكم الذى يكرس للتفاهة والدمامة والسطحية وخراب الديار
أقول ماذا يامنار اتركينى قليلا الآن فقد تعبت. تعبت




19

خيوط الألق من فجر الحزن


معذرة عزيزي
كل إيميلاتي لك ملغمّة تفوح منها رائحة الدم والخوف والقلق
اغتيالات عشوائية واختطاف واعتقالات من غير سبب .
إيميلاتي لك تخرج من تحت عباءة الموت والدمار دائما فاعذرني ليس في جعبتي سواها وهي التي تسبب لك نصف ما تعاني من الصداع وآلام الرأس والمفاصل .
اليوم وبعد مضي نصف ساعة من صحوي من النوم ، دقّ جهاز المحمول وكان علي هو من يتكلم بالجانب الأخر، وإذ به ياحسن يطلب لقائي ، وكان المطر لايزال ينسكب من السماء بغزارة ، قال لي سأكون عندك بعد دقائق فقط .
عشت لحظات عصيبة ياحسن وفقدت نصف وزني وحجمي فماذا تراه يريد علي وأي أمر هذا يستدعيه كى يطلبني في الصباح الباكروفي هذا الجو الممطر ؟؟ إ
إنه الغزو وكل شي ممكن فيه ووارد .
توقف علي أمام الباب ودق جهاز تنبيه السيارة خرجت وشعري كان يسبح في الماء ، ثانية واحدة وكنت قد غادرت الحمام لتوي ، بلل المطر رأسي وأعاد لشعري الرطوبة . قال علي وهو يلهث
:- نريدك معا لأمر مهم جدا
فقدنا ثلاثة من الشباب ليلة الأمس عندما انسلوا ليلا بعد فرض حظر التجوال وخرجوا ليزرعوا عبوة ناسفة لصيد الأرتال الأميركية التي تعبر من الشارع العام ليلا بين الفينة والأخرى ، لكن الطائرات الأمركية التي كانت تراقب الطريق اكتشفت وجود الفتية فصبت عليهم جام غضبها ، عاد سعد سالما وعثرنا على خبر لكمال ، كان قدأصيب فاقتادته القوات الأميركية وسلمته لمفرزة أمن عراقية ثم جاءت وأخذته مرة ثانية ، أما كاظم فهو الوحيد الذي لم نجد له أثرا لحد الآن ونحتاج إلى وجود امرأة معنا لنقوم بالبحث عنه في الفناء البعيد . وجودنا دون عنصر نسوي يشكل خطرعلينا ، سنكون معرضين للتساؤل وجلب الأنظار إلينا.
ترجل علي من السيارة ونزل في مكان قريب من بيته بينما سلكنا أنا وحسام الطريق بحثا عن كمال ولم نبتعد سوى أمتار قليلة حتى اتصل بنا علي وقال إن جثة كمال وجدت ملقاة في مكان بعيد عن الشارع ، صرخ حسام والدموع تترقرق من عينيه قائلا
:- لقد استشهد كمال؟
قفلنا راجعين وكان المطر ينهال فوق سقف السيارة ويحدث ضجيجا ، وكان الشارع خاليا من السابلة والسيارات ، قضينا ماتبقى من الطريق وحسام يحاول أن يحبس دموعه ويجعلها تنسال أمامي . قال
:- إنه أب لأربعة أطفال لم يتجاوز أكبرهم العاشرة ، يشتغل سائقا لسيارة تاكسي أجرة ليربي أطفاله ، ورفض أن ينتمي إلى سلك الشرطة لكي لايكون في موقف يتطلب منه التعاون مع القوات المحتلة.
شهيد أخر يضاف إلى قائمة الشهداء وأيتام أخرى تضاف إلى سجلات الأيتام وقلب أم ثكلى وقلب أب آخر أصابته لوعة الأبناء.
ابتدأ صباح اليوم بالدم وهاهو الليل يقبل والشجن يسطو على الأفئدة ، اتصلت بي رحاب قبل ساعة وكان صوتها مخنوقا كأنها خرجت من حفلة بكاء للتو، قالت إن القوات الأميركية اقتحموا منطقة سكناها اليوم واعتقلت فائز أصغر عنقود وابن عمه نهاد وأبناء الجيران علي ومحسن وعبد العزيز .
مضت رحاب سريعا بعد أن أحدثت شرخا في القلب ليجئ بعدها العم سعيد ويزف لي بشرى أطلاق سراح عمار من قبل المختطفين مقابل فدية مالية قدرت ب(5 دفاتر) دفعت نقدا للمختطفين ، وجدت العم سعيد يغرق في بحر من السعادة والأمل وهو يخبرني لقد اشتريت حياة عمار ب 5 دفاتر وهو الآن صار مملوكا لي ، وقهقه ضاحكا ومضى ، أحسست إن اللواء سعيد أحد أكبر القادة العسكريين قد فقد عقله وهو يقترب من باب من أبواب الجنون النفسي.
ياإلهي
الساعة تقترب من الرابعة فجرا وأنا جالسة على الحاسوب أكتب إليك (إيميل) هذه الليلة ، تكدست علي الأحزان والأوجاع مرة واحدة ، لكن رحيل مروان وسفره يقض مضجعي ، أشعر برغبة جارفة للبكاء ، وبالندم ياصديقي وقلبي يؤلمني ولسان حاله يردد دائما:
((أنت من أضعت مروان من يديك ، أنت من جعلتيه يهجر إلى اللاعودة )).
أهي سنة الحياة أن لانعرف قيمة الأشياء إلا بعد أن نفقدها؟
إتصل بي نجم من الموصل وقال إنه سيحضر إلى بغدادلإنجازمعاملةجوازإبنه خالد من السفارة المصرية في بغداد وطلب مني مرافقته للسفارة بغية إنجاز المعاملة بسرعة ، لن أخفيك سرا ، أعجبتني الفكرة وراودتني فكرة الحصول على تأشيرة الدخول للقاهرة قد أحتاج إليها في الأيام المقبلة ، فإذا ظلت الأوضاع على ما هى عليه ربما ألجأ للقاهرة وأقضي معكم بعض الوقت ريثما يعود الهدوء إلى المدينة ، أنا مرهقة نفسيا وأشعر برغبة لمغادرة بغداد ، رؤيتها وهي في حالة الدمار والإنهاك اليومي يبعث على الإرهاق ولم تعد تعطي حيوية ونشاطا لكل من يلقاها وصارت الحياة فيها تستهلك بالألم والقلق ودون أي شعور بالمتعة.
لن أتناسى الموضوع الذي اتصلت بي من أجله وتيقن إني سأفعل ما بوسعي لإقناع الوالدة العزيزة برغبتك فى خطبة هيام لإبنك ماجد وأنا واثقة أنها لن تمانع وسيلقى ترحابا كبيرا منها ، وليس هناك من عثرة سوى مصطفى ابن عم هيام الذي تقدم قبل فترة لخطبتها .لكنه لم يلق قبولا ورضا من هيام ذاتها ، لقد رفضت هيام كل من تقدم لخطبتها في الأشهر السابقة ، وكان آخرهم ابن عمي مصطفى ، والسبب كان يتعلق بعمله في الحرس الوطني ، ورغم إلحاح مصطفى وأهله والتقاليد العشائرية الصارمة التي تفرض زواج ابن العم من ابنة عمه إلا أن الموضوع لم يتم وأشك أن يتم ، والسبب يعود كما أخبرتك أن مصطفى تطوع للعمل ضمن فوج الحرس الوطني، وهو الأمر الذي لقى استهجان جميع أفراد العشيرة ولاسيما أشقائي حكم وصهيب ومهند و( الحجية) نفسها قالت إنها لن تزوج ابنتها لشخص يعمل في الحرس الوثني ويذبح أولاد عمومته مقابل راتب شهري لا يتجاوز 500 دولار شهريا.
إطمئن ياحسن سأحسم الموضوع مع الأشقاء والوالدة ، وهيام نفسها لاتمانع من الارتباط بماجد ولاسيما أني تأكدت وعن طريق الصدفة أن هناك مشاعر متبادلة بينها وبين ماجد عندما كانت قد نسيت إيميلها مفتوحا فاطلعت على( إيميل )بينهم وهو الأمر ذاته الذي أوحيته لي أنت في إحدى الإيملات السابقة من حب مكتوم بينهما ، وأن ابنك دائم اللهج بإسمها .فقط نأمل شفاءه قريبا من إصابته التى تشرف بغداد بها.
وأطلعك لكي تشعر بالاطمئنان أن الوالدة وهي صاحبة القرار الأول قبل هيام قالت
:- إنها تتشرف بتزويج ابنتها من إبن رجل مصري يدعم المقاومة ويمتلك حسا قوميا صادقا تجاه العراق على أن تزوجها من ابن عم يعمل لصالح القوات المحتلة.
وهو الحديث الذي اتفق عليه الجميع ونال الاستحسان وماجد أولى بهيام من غيرها فهو قد تربى معها ولعبا سويا طيلة عشرين عاما إثناء إقامتكم في بغداد وكنا أسرة واحدة لايفرق بيننا شي.
طمئن ماجد ووالدته ، وسأزودك بالأخبار أولا بأول ، لقد كانت استشارات عائلية فقط وحسم الموضوع مع بقية أفراد العائلة فيما يتعلق بخطبة مصطفى ورغبته بالزواج من هيام.



20

العبورإلى فرح لن يربكنا حضوره


منار
شقيقة الروح التواقة للنور
اليوم بعد صلاة الفجر سيأتى جمال إبن خالتى فاطمة بسيارته الأجرة ليوصلنى حتى مطار القاهرة الذى سأستقل منه مع أكثر من 500 راكب مصرى وغيرهم طائرة إلى طرابلس الليبية ، لكل وجهته ومقصده ، وأما عن مقصدى الذى غفلت ذكره لك فى غمرة الأحداث الخانقة والقاتمة هنا الآتية من جغرافية كانت فضاء للنور ، من بغداد ، بعد أن امتدت أياديهم القذرة إلى شارع المتنبى ، وآه من المتنبى يامنار ولعلك الآن تشعرين بتنهداتى الساخنة الطالعة من جوف قلبى الملتهب حيت أعانق التذكر للمتنبى شارعا وكتبا وأصدقاء ، وأنت .
أنا ذاهب لطرابلس لحضورالاجتماع التحضيرى للمسابقة السنوية التى تقيمها جامعة ناصر الأممية، وللقاء الدكتور فاهم ، تخيلى؟
سألتقى فاهم حبيب قلبى الصامت المنكسر دوما حتى فى لحظات الفرح ، سأبتهل فى محراب صمته وأنا جالس أمامه ببيته ، وعندما تذهب أم أميرة رباب زوجته الحبيبة لتعد لنا الغذاء الذى واعدتنى به حين هاتفتهما مخبرهما عن سفرى إليهما ، أعرف أنى سأجلس أمامه طويلا لن ينبس ببنت شفة إن لم أبادره بالحديث ، وأعرف أنى أتلذذ فى حضورتلك الحالة ، فكلانا مسكون بحزن يملأ تلافيف روحه ، وأعرف أنى لا أتوهج إلا وحزن قوى يسكننى ، هذا الرجل غريب فى صمته كما تعرفين منار ، وغريب إن نطق
سيمنح عطاء الحكمة بلا حدود ، وكأنه لقمان الذى أتاه الله الحكمة ، حتى أنه لا يبادرببدء الحديث إلا إذا استهله ب( يابنى ) حتى وإن كان من يخاطبه أكبر منه عمر ا ، وما إطلاقنا عليه طوال العمر( عم لقمان ) إلا بالقول الفصل الصحيح ، أكيد سأناقش معه أمر الانهيارالكامل لمنزله البغدادى والذى كان يعتمد فى معيشته التى تعودها رغدة طوال عمره على عائدالايجار الذى كان يحول إليه ، وأنت كنت قلت لى أنه قد بادر بالتخلى عن قيمةالإيجار لصالح زوجتين من زوجات شهداء الفالوجة يعرفهما إسما ورسما لأنهما كانتا من المترددات عليه بأوولادهما مرضى ،ويعرف أنهما معولتان بعيال كثيرة ،وذات مرة هاتفتنى العظيمة رباب زوجته من طرابلس ترجونى الاتصال به ليقلع عن صمته الذى يحرق القلوب ودموع روحه التى تبلل التاريخ البشرى كله بعد أن وصله منك يامنار خبراستشهاد الرجلين بالفلوجة .
أحيانا ألومك كثيرا على حرصك أن تخبرينا بكل صغيرة وكبيرة ، فقد تراكم الألم فى أرواحنا حتى صار جبالا سامقة ، خيم بثيابه القاتمة عليها لفقدان كثيرين ممن عرفناهم وألفناهم ، والأكثرممن لم نعرفهم وألفناهم وننهزم أحيانا أمام عجزنا وأفعالنا التافهة فى التظاهر والرفض والتنديد والشجب ، وأنتم تواجهون الموت فى كل خلايا الوقت ، وأحيانا ألومك وأغضب منك لوأخفيت عنا شيئا وتصادف أن أجد هيام قد أرسلتها لماجد ، وهو من بين غلالة الأسى والفراق التى فى قلبه لابتعاده عنها ، وعذاب روحه كلما أتاه نبأ شباب كان يعرفهم استشهدوا أو اختطفوا أواعتقلوا أووقعو فى أسرالغزاة
على فكرة
كم أنا ممتن لأم المحبين ( الحجية ) على قرارها الذى تشرف به سلالتى التى أنتمى إليها أوالتى ستخلفنى من نسل البنين أوالبنات
كم هى عامرة قلوبنا بحبها ، طوال عشرين سنة من احتضانها لى ولزوجتى وأولادى وكأنى إبن بطنها ، وكأن من أتى من رحم زوجتى هم أحفادها ، ولا أنسى أبدا يوم ميلاد منار الصغيرة ، وكانت رغبتى أن أسميها ريم ، تذكرا لزميلتى الفلسطينية أيام الجامعة ، وكنت قد همت بها لفترة ، وحكيت ضمن ما حكيت ل ( الحجية ) ونحن جلوس حولها بالدار الكبيرة بتكريت عن تلك العلاقة ، أذكر أنها ضغطت على يدى بحنو وسنها تبسم وقالت :
:- مالك حبيبى ؟
ما بك شوف لمرتك وإنها ممكن تغير؟
وأصرت هى أن نسميها منارالصغيرة
ولما قلت لها ياماما عندنا مناروالله يبارك لك ولنا فيها ردت بحزم:
:- وانتوبمصر ما عنكوا نجاة الصغيرة ؟
كانت حكمتها ومسحة التامل التى فى بريق عينيها ووجها الأبيض العريض الممتلى الذى يزدهر خلف شنشلها الأسود الشفاف الحريرى يجعلنا دوما فى محيط التوقيرلها رمزا لأمومة طاغية ، وكنت أستجيب لنصائحها وأعمل على تنفيذها ولو لم توافق ماأهوى،حبهاوالتمسك ببقائناداخله كان يسحرتطلعاتنا ، ويجعلنا ننكص عن أى مبادرة للاستقلال بعيدا عن هيمنة روحها الأخاذة علينا ، وأذكرمرة فى غمرة الشجن لتذكرى أمى بمصر حين اغرورقت عيناى بدموع الفراق أن قالت مداعبة بصرامة
:- تعرف ياحسن ،والله أمك أكيد تشبهنى ، وأحس أننا أولاد أمرأة واحدة ، وانت مش عم تقول دوم لمهند . رب أخ لك لم تلده أمك؟ وأنابقولك ياوليدى : رب أم لك لم تخرج من بطنها .
ساعتها بكيت لشدة البهجة ، ولا أدرى سرا لبلوغ سعادتنا أعلى درجاتها فنصحبها بالبكاء ؟ هل السعادة ليست قدرنا ؟، وهل قدرنا أن نحزن وفقط ؟ لذا فأنا لا أشعربالامتنان فقط على مباركتها خطبة ماجد وهيام ، بل أشعربالافتخاربانتسابى وولدىإليكم وإليها وإلى تاريخ روحها المثابرة والتى رعت أربعة أجيال يمرون أمام عينيها صباح مساء
منار
ياحبة الروح النابتة بأرض خضراء
بشأن موضوع مصطفى إبن عمك. لاتقسوا كثيراعليه وأملى أن تراعوا ظروف والده الحاج عدنان الذى قدم اثنين من أبنائه شهيدين ، رفيق الذى استشهد فى الفاوأيام حرب القادسية ، وصارم الذى اغتالته فرق الموت الأسود وهو بسيارته عائدا من سامراء محملة بدقيق الطحين ، وأنت تعرفين أن الدكتورفاهم كان من أعز اصدقاء هذاالعم عدنان ، لذالن أناقش أمر ماجد ومصطفى ومن فاز منهما بهيام مع الدكتور فاهم ، وانت تعرفين هذاالصبى الرقيق الذى يشبه فنانى الشاشة البيضاء باسم إبن الأستاذ فؤاد كان يزاحم هو الآخر ماجد فى حبهاصمتا وخوفا أن تصل حكاويهما ل( الحجية ) ولكن وقارالأستاذ فؤاد الذى أورثه لإبنه باسم هومن جعل الأخيربكبرياءالعربى وشهامته يخلى الميدان لرفيق عمره ماجد راضيا .
فلا تنازعوا عمك عدنان فى أمرابنه مصطفى ، أناعلى ثقة بعودته من رحلة انتمائه لرجال الداخلية وعناصرها ، سيحول بينه وبين الأمرتربيته الطيبة وخلق قبيلته العربى الأصيل ، ومهما قيل أن زوجة شقيقه لؤى نوران الشيعية هى من تقف خلف خطوته تلك ، لا والله يامنار، وأنت أعلم بتلك السيدة جيدا أنها خيرمثال للمرأة والأم العراقية الحقة التى تنتفض دوما لعراقيتها حين كان يغمزمن قناتها بعض المتحمسين .
فرفقا بمصطفى
سيعود
ولا تشكى فى ذلك ، وما ينبئك مثل خبير ، وهل أنت بحاجة لتذكيرك بهذا؟
أبلغى الأمرللأستاذ فؤاد ، وأعرف أنه سيسره كثيرا ، فقد كنت أهيم حبا فى علاقته بماجد ، كانا كصديقين وهو الذى أنجب من الأبناء خمسة أصغرهم كان بعمر ماجد وهوباسم ، سبحان الله على قلب رجل كهذا .
قبلى جبينه أرجوكى ، وقولى له أنى ساذكره طوال سهرة الليلتين بصحبة الدكتور فاهم بطرابلس
واسلمى لى العمر كله
جمال ابن خالتى فاطمة يطلق بوق سيارته الآن يتعجلنى الهبوط كى نرحل الى المطار
سأهبط اليه
ولك محبتى وللعراق الحرية


21

فيما أنت طائر.
نحن أسرى خوف الاختطاف

انتزعت هذه اللحظات القليلة من الليل الذي يقترب من أخره لأكتب إليك ، راودني شعور خفي أنك تعاني من مآسي كثيرة في حياتك بسبب استمرار إصابة ماجد ومرض حازم المزمن والأزمة السياسية التي تمر بها مصر ائتلافا مع شقيقاتها العربيات ، هي أمريكا يا صاحبي تدس السم في حياتنا وتعمل على خلق كل هذه المتاعب التي تعانيها أنت وأنا والملايين من أمثالنا في هذه البقعة الطيبة من أرض الله ، فما بالك بكاتب ومناضل شريف مثلك يجدف ضد التيار الأمريكى الذى يموج فى البحار العربية ؟
تولدّ عندي شعور غريب بالحسد وأنت تخبرني أنك طائر باتجاه طرابلس لتلقي صديقنا الدكتور فاهم وتقيم عنده بعض الوقت وتحضر مؤتمرا ، تنامت شهيتي وزادت رغبتي في القيام بالسفر والتجوال خارج نطاق دائرة القتل والاختطاف والدمار الذي سكن في داخلي منذ أربعة سنوات ونيف وتمنيت لو يتسنى لي أن أحلق عاليا وأهبط فوق سطح ماء أو على ضفاف ساحل أو فوق جبل شاهق وأتنسم رحيق الحرية ومغادرة زنزانة الحياة في بلد محتل ، أتذكر أني كتبت لناصر المعقتل في سجن بوكا منذ ما يقارب الثلاث سنوات
:- ((انك معتقل داخل أربعة جدران يحرسك السجانون والأحرار في خارج المعتقلات معتقلون. فعندما يفرض عليك حظر التجوال في أية ساعة من النهار ولايتسنى لك مغادرة باب البيت بعد انقضاء الشطر الأول من الليل ، وعندما يعسر عليك السفر إلى مدينة أخرى خوفا من الاختطاف أو الاغتيال بعبوة أو سيارة ملغمة ، عندما تجبر على الجلوس في غرفة من غرف الدار لأنه لايوجد في خارج فنائها ما يرح الصدر ويشفي الغليل ، تكون مسجونا ومعتقلا يحاصرك الموت والرعب والقلق)).
هل تعلم ياحسن أني كنت أشعر بالوجل مجرد أن يفتح لي مروان باب اللقاء وجها لوجها مثل أي عاشقين يلتقيان تحت فئ نخلة أو شجرة أو قرب ضفاف نهر ، كنت أتساءل في نفسي
:- أين يمكن أن يلتقي عاشقان يربطهم الهوى والهيام في بلد لم يعد فيه مكان يصلح لتبادل الغرام ؟ لامنتزه ظل عامرا ولا صالة فندق ولا كافتريا أو كازينو ، حتى تلك الفسحات الطويلة والواسعة من أراضي الجزيرة والحقول استغلتها قوات الاحتلال لتقيم فوقها معسكرا أو ثكنة عسكرية . أو أنها عرضة لمرور مفارز الشرطة والحرس ، وإذا لم يتواجد هؤلاء فأنها محتلة من قبل جهات مسلحة أخرى.
أعتذر ياحسن إن كنت قد شعرت بتوتري أثناء تحاورنا على الماسنجر ليلة أول من أمس فالأجواء حولي مشحونة بتواترات شتى ، وكل شي يبعث على الغضب والنرفزة ، قبل أن أفتح النت ، اتصلت بي ريهام صديقة عمري لتخبرني بخبر مداهمة منزلهم واعتقال ولدها منتصر بسبب مشاركته في تظاهرة سلمية أقيمت احتجاجا على بناء جدار الأعظمية ، وقبلها بساعة أخرى اتصل بي على الجوال وليد صديق صباح ليعلمني أن عصابة اختطاف طلبت مبلغ خيالي ( 150 مليون دينار) من ذوي صباح شرطا لإطلاق سراحه بينما أفرج عن زميله سعد بعد تعرضه لضرب مبرح وقطع أصبع من أصابعه .
والدتي لازالت متعبة مثل بقية الأمهات ، قلقة ومتوجسة على مصير شقيقي عمر الذي أمضى تسعة أشهر على اختفاء أثره عندما كان عائدا من العاصمة باتجاه سامراء ، أواجه متاعب مالية كبيرة فالراتب القليل الذي أتقاضاه لم يعد يسد الرمق وأسعار السلع في ارتفاع يومي، أخشي أن أفقد هذا الراتب أيضا بسبب موقفي السياسي الرافض للاحتلال وأعوانه .
البلد يغلي بالمشاحنات السياسية والذين استلموا زمام الأمور ماهم إلا عصابة تختلس وتقتل وتنهب وتنفذ أجندة صهيونية وفارسية وأمريكية والوضع المعيشي لم يعد مطمئنا على الإطلاق.
قطع مروان اتصاله الهاتفي ولم أعد أستلم منه أي اتصال ، لكني علمت بالصدفة من أحد أصدقائه أنه موجود داخل العراق ولم يغادر ، وقال لي صديقه الأعز رعد لاتعتقدي أن يهاجر مروان ويترك المقاومة التي يجري إيمانه بها في دمه ، كان متوترا فقط ويريد أن يتيقن من مشاعرك نحوه ، مروان جاد في كل شي حتى في موضوع مشاعره ويريد الاقتران بك ولم يؤخره سوى الانشغال بأمور المقاومة.
أبلغ العزيزة هيام اعتذاري عن تلبية رغبتها بحضور زفافها على محمد والذي تأجل مرتين بسبب اعتقالك مرة وبسبب مرض حازم المستمر ، تعلم أني أمرّ بظروف عائلية صعبة ، الوالدة مرهقة من اختفاء أثر عمر، ووفاة زوجة شقيقي مثنى وتركها لطفلتين صغيرتين هن بأمس الحاجة إلى الرعاية والاهتمام وليس هناك من يراعيهما غيري ، الكبرى ضباب أتولى رعايتها بينما تعتني سهاد برباب الرضيعة فضلا عن وجود معوقات تتعلق بخطورة السفر برا من بغداد باتجاه دمشق أو الأردن . فالطرق أصبحت مصيدة سهلة تستغلها القوات المحتلة والجماعات المسلحة لكني أعدها بزيارة قريبة عندما يتحسن وضعي.
قبلاتي لهيام ومنار الصغيرة ولامهما الطيبة أم حازم.
وانقل تحياتي للعزيزة ليلي وأمها فوزية شقيقتك التي اتصلت بي من الاسكندرية وأخبرتني أنها طلبت رقم جوالي منك ، وحدثتني عن مشروع بحث ابنتها لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث وأنها اختارت مادة تتعلق بأحداث الفلوجة والمعارك التي دارات فيها وبحاجة ماسة إلى عينات من الفلوجة لإكمال البحث بعد أن وفر لها الانترنيت مصادر قيمة من المعلومات وأشعرتني برغبتها في اللجوء إلى الفلوجة لإكمال ذلك إلا أني منعتها بسبب سوء الوضع الأمني واستحالة دخول مواطنيين عرب إليها وأخبرتها أنى سأستغل علاقاتي بأبناء الفلوجة وأزور بعض العوائل الصديقة لمساعدتها في مشروعها العلمي .
دمت سالما ..........



22

لا يتكرر غير الحزن على أرض عشقتك

حسن
تحت وطأة حزن يثقل الكاهل ، أكتب لك هذا (الإيميل) أرجو أن تلاحظ أنه إيميل جديد عملته اليوم وألغيت القديم بعد أن شعرت أنه قد اخترق من قبل أشخاص لايملكون موقفا ولا يحترمون رأيا ، تصور ياحسن أني أتلقى يوميا( إيميلا) أشعر بتقزز من الكلمات التي ترد فيه ، وأتساءل كيف يمكن لصاحبه أن يمتلك كل هذه الكم الهائل من اللاوعي ويقدم نفسه نموذجا سيئا لإنسان همجي لم تثمر فيه أية بذرة لثقافة الرأي والرأى الآخر.
هل يعقل أن أتعرض إلى هجمة شرسة ب(الإيميلات) لمجرد أني أطرح رأيا مخالفا وموقفا رافضا للاحتلال وعملائه؟
المهم ياحسن أن (الإيميل) الجديد عبارة عن رمز فقط وليس إسما وسأضطر إلى تغيير( الباس وورد) بين يوم وآخر ، وأطلعني صامد على آخر برامج لحماية الإيميلات من الإختراق ، لكنك تعلم أن الهموم جاثمة على صدري والحزن يلتهم كبدي. فالمصائب تحيط بي من أينما أدر وجهي ، وبت لاأثق بقدراتي على تعلم تقنيات الإنترنيت المتطورة يوما عن أخر . أخبار مروان تقلقني جدا ويقال إنه اعتقل مع ثلاثة آخرين كانوا قد خرجوا في إحدى ليالى نيسان وقبل فرض حظر التجوال بدقائق لزرع لغم أرضي على الشارع الرئيسي الذي يربط بغداد بالموصل وهي طريق تسلكه الأرتال الأميركية في منتصف الليل وتعرض مروان ومن معه إلى إطلاق قذائف صاروخية كان تقوم بمراقبة الطريق أمام الرتل وأعتقد أن مروان وثامر قد اعتقلا وتم نقلهم إلى معكسر بوكا في البصرة .
عثرت في صندوق (الإيميلات) على رسالة من الصديقة بيداء التي تربطني بها صداقة عبر النت فقط والتي تكونت نتيجة إعجاب متبادل فيما نكتبه من مقالات تهاجم قوات الاحتلال وعملائه وتضمن( إيميل ) بيداء التي تسكن في استراليا على رابط يحوي قائمة اغتيالات نشرتها منظمة بدر الشيعية ، وورد إسمي من ضمن المطلوبين للاغتيال وتطالبني بمغادرة بغداد فورا واللجوء إلى أي امكان آخر في العالم وتضمنت القائمة أسماء أدباء أصدقاء منهم الشاعر المبدع عبد الرزاق عبد الواحد والشاعرة ساجدة الموسوي ورعد بندر والمرحوم رعد عبد القادر والمغفور له منذ الأزل بدر شاكر السياب ولطفية الدليمي صديقتك الأثيرة.
والتهمة التي توجهها لنا هذه المنظمة الشرسة هي الولاء ومحبة الوطن أكثر من المعتاد وبطريقة جنونية تجذب الأبصار والقلوب
وبدأت عملية الاغتيال والتصفية لرموز العراق فاغتيل الخليفة أبا جعفر المنصور بتهمة بناء بغداد كعاصمة تفتح قلوبها للأحبة والزوارّ وتستقبل الضيف استقبال العربي لضيفه ، واغتيل السياب بتهمة التحريض على الحب ومحبة بصرته حبا جما يخالف فتاوى المرجعية وتم تصفية مهندسي البناء والميكانيك وتنقيب النفط والاتصالات واغتيل الأطباء ، ولم يسلم إلا حفارّو القبور ، أبقوا على حياتهم ليس محبة فيهم بل لإزالة آثأر جرائم الموت ودفن الجثث ليتسنى لهم المزيد.
إغتالوا كل الصوروالجداريات والنحوت والتماثيل والشناشيل ليمحوا من بغداد أريج الحضارة التي تفوح من كل أثر خالد.
محوا أسماء العلماء والخلفاء والانتصارات والمناسبات القومية والوطنية وأسماء الفوارس الأبطال في ساحات الوغى وأسماء قادة الفتوحات الأولى وأسماء المعارك والصولات .فلم يبق لعمر أثر في بغداد ولا لابن سينا أو الفراهيدي أو عشتار.
الموت ياحسن صار يقبع في كل زاوية وركن وعلى كل جدار وباب وسقف.
في اليوم المدرسي الأول ، اشتكى علي لجده عباس وهو يبكي مقسما بأغلظ الإيمان أن لاتطأ قدماه أرض المدرسة ثانية بعد أن طلبت منهم إدارة المدرسة إزالة صور الرئيس صدام حسين من مقدمات الكتب.
قلبي يوجعني ياحسن وأحس أن جسدي سيتآكل من الغيظ والهمّ . فماذا يعني أن تزال من شوارع بغداد اسم جمال عبد الناصر أو سعد بن أبي وقاص لتتحول إلى أسماء أشعر بتقزز حين أورد ذكرها.؟
ماذا تعني أن تحوي جدران بغداد صورا تتقزز من رؤيتها العيون ومن ذكرها القلوب ، تزال تماثيل المنصور لتعلقّ صورا لمعممين ّ ؟.
أواه ياحسن ..
لاأدري لم أعود وأسرد إليك في هذا( الإيميل) ما سردته في الإيملات السابقة ؟ هل لأني متعبة وأشعر بالإرهاق والاختناق وأتمنى أن أخرج وأتمشى في شوارع الكرادة أو المنصور واليرموك والأعظمية كما كنا نفعل معا وأجد هذا شبه مستحيل في وقت تجري فيه الاختطافات علنا وفي ضور النهار وأمام مرأى العشرات؟
أم أنه الإحساس من أن بغداد أصبحت صورة جميلة وذكرى خالدة في الأذهان يدعو إلى الألم والشعور بالمرارة ؟ واقعها يدعو إلى النواح والعويل فإذا كان العشرات من الشيعة يخرجون إلى الشوارع ويلطمون على الإمام الحسين شهيد كربلاء في كل ذكرى ومناسبة أشعر أني أحتاج أن ألطم على بغداد يوميا . فشوارعها موحشة وبيوتها موحشة وحدائقها جرداء ودجلة لم تعد عروس الأنهار وجسور بغداد أكلتها سرف الدبابات وعربات همفي.
أتراني توفقت في إقناعك أولا بالعدول على أي فكرة في السفر إلى بغداد أو حتى التفكير بزيارتها لأيام عدة ولتتمكن من إقناع ليلى إبنة شقيقتك التي تلح وتصر على زيارة بغداد لغرض إنجازبحثها والحصول على عينات من أرض الواقع.
وآمل أن تتمكن من إقناع وليم بالعدول عن فكرة السفر. فلن يكون بمأمن من الاعتقال من الحدود السورية أو العراقية ، وإذا فلح في العبور من الحدود فمن الاستحالة الخلاص من وقوع في فخ العصابات والعلاسّ الذين ينتشرون في الطرق الخارجية


23

تعبر الحالات كلها فى الأمل

منارحبيبة العمر الشقى
كتاباتى الجارحة المجروحة
حين هممت بلهفة إلى الحاسوب فى تلك الغرفة الصغيرةلأميرة الأميرة - كما نطلق عليها - بنت صديقنا الإنسان الدكتور فاهم ، وبعد أن انتهينا من غذاء ثقيل ملأ الأمعاء كلها اجتهدت رباب أم فرات الحبيبة هى والأميرة فى إعداده قبل وصولى بيوم كامل ، وكأنى كنت ذاهبا للغذاء فقط ، ألا تدرى تلك السيدة الرائعة أن لا قبل لى بالمتبلات والمشويات والسمين من اللحوم ؟ ، ولكن من باستطاعته نهيها عن الكرم ، سيواجه بعينين مغرورقتين بالدموع وانكسارة الحزن الذى تقطع نياط القلب ، ألم تكن تلك عادتها يامنار دوما حينما كنت أقول لها "
:- تاعبة نفسك ليه ياأختى؟ هوا إحنا أغراب عشان تبهدلى حالك كده ؟
تلاقت أعينهما فى حبور وأنا أدلف إلى الغرفة الصغيرة ولمحت إشارتهما لأميرة أن تغلق الباب خلفى ، وكأنهما يهيئان لى أمر خلوة مع حبيبة ورأيت عيونهما تبرق ببسمة شفيفة رائقة ، وعلى التو وجدت بريدك على الماسينجر يضىْء ، ومن أسف لم أستطع كاالعادة التقاط صوتك لرداءة الخطوط.
وسرعان ما انقطع الإتصال معك ، فاضطررت أن أكتب لك الآن من هنا ، وأنا جالس بنفس المقعد الصغير الرقيق رقة تكوين الحبيبة أميرة الأميرة ، وقد لا حقنى صوتها الناعم من الخارج يطلبنى أن أجيب طلب أختى فوزية على الهاتف من مصر وقد ناولته لى من خلف بابها الموارب قليلا.
فوزية سعيدة جدا باستجابتك ومساعدة ابنتها ولكنها ترجونى أن أوعز لك بأمر ، لعلها لا تعرف أنك تؤمنين به وتقتنعين من أن ليلى لا يصح لها الدخول إلى العراق الآن كى تمارس تعرفها وبحثها على أرض الواقع بالفلوجة ، أفهمتها أن هذا هو موقفك من رغبة ليلى الحضور إلى الفلوجة ، وأنك لا تستطيعين لها أمرا ولا مسلكا ، ولما طلبت منى أن أحمسك على إقناع ابنتها بعدم السفر ، زعقت بوجهها وأفهمتها أن ذلك ضرب من المستحيل سفرها إلى هناك ، وأنها ((... ))* لأنها لا تتابع ما يحدث بالعراق جيدا وإن تابعت لا تفهم ، فغضبت من حدتى ورجتنى أن أغلق المحادثة لأنها غاضبة من كلامى ولا تريد إغلاق الإتصال بوجه أخيها الأكبر ، فحاولت استرضاءها حتى أغلق الاتصال من تلقاء نفسه .
لا تقلقى من أمر ليلى ، ولكن أعدى لها ما تستطيعى من شهادات الشهود وحكايات من رحلوا وما يقع تحت يديك من تقارير قد لا يمكنها العثور عليها ، فليلى مشروع مؤرخة رائعة للمستقبل ، تقرأ التاريخ قراءة جدلية ، وتفهم جيدا الفارق بين المؤرخ وكاتب التاريخ ، هى كما تعرفين تلميذة نشطة لصديقنا الأكبر دكتور محمود اسماعيل.
أنا عائد للقاهرة غدا ، وسأحاول استرضاءها وطلب سماحها واعتذارى عن كلمتى التى طاشت منى عفوا فأغضبتها ، ولأنى أحرص أن تبقى بجوار هيام ومنار هى وابنتها ليلى ، فهيام معلقة بهما لدرجة مناداتها دوما بماما بدلا عن عمتى ، وأنت تعرفين أن أم حازم لا يغضبها ذلك فهى وفوزية صديقتان حميمتان حتى أنها دوما ما تداعب هيام حين تطلب منها أمرا ولا يتوافر لها توا تلبيته فتقول
:- روحى لمامتك فوزية وهيا تعملهولك
ولا تقل لها عمتك ، أعرف أن كلامى أغضب فوزية منى وكل خوفها أن يصلك عنها منى أنها لاتتابع ما يحدث بالعراق جيدا ، أو أنها لا تستوعب ما تتابعه وهذا حسب رأيها يظهرها أنها ليست صاحبة موقف منه مع أو ضد ، أنا أعرف جيدا يامنار أنها كانت تتحشرج بالغضب حين كانت تتابع صورة أحمد الجلبى على التلفاز ،وصرنا نتداول جملتها الشهيرة عنه كلما تعثرنا برؤية ملامحه عبر الفضائيات.
: - (( الراجل ده . شكله راضع خيانة من بز امه ))
ولا أدرى سر عبقرية خيالها حين كانت تقيم علاقة تشابه بينه وبين أنور السادات ، وكنت أحتج دوما وأنا من أشد الناس كرها للسادات على هذه المقارنة ، منتصرا للسادات بالتأكيد فى هذه الحالة ،وخاسفا بالجلبى الأرض فى كل الحالات.
منار
أخبرنى صديقى الدكتور فاهم أن أحد أقاربه اتصل به هاتفيا من بغداد وأخبره بهدم منزله المهجور من سكانه منذ شهرين ، وهو غاضب لأنك لم تخبريه بالأمر ، ويكاد يشك فى أن المبلغ الذى كنت ترسليه له على أنه القيمة الإيجارية لمنزله لم يكن صحيحا وأنك كنت تدبرين المبلغ بطرق عسيرة كى لا يشعر هو بشىء ، ولما حاولت التندر معه بحديث حتى أزيل غمامة روحه من أنك لست وزيرة مالية فى حكومة المالكى كى تسرقى أموال البنوك وتوزعيها على معارفك وأتباعك ، وأنك أنظف من أوعية الطعام الصينى بعد غسلها كما نقول نحن بمصر ، وأنه من الأولى أن تبحث لها هى عن مصدر أمان يؤمنها فى الإنفاق على رعايا كثر هى مسؤولة عنهم لو فقدت وظيفتها وراتبها الذى لم يعد كافيا للخبز فقط.
لا يشغلك يامنار إختفاء مروان وانقطاع أخباره فقد اتصلت كلنار من بيروت بوليم المقيم فى حلب الآن وأخبرته أن رسالة قصيرة وصلت إلى هاتفها المحمول زغرد قلبها طربا لما رأتها صادرة من هاتف مروان ، وتحمل جملة قصيرة تؤكد أنه بخير ، فلا تشغلى البال سيعود إليك بحتمية قانون عودة الفروع إلى الجذورواشتباكهما، وأنت لا تعرفى أن كلنار ومروان كانا جارين طوال عمرهما بعلاوى الحلة ، وأنه كان فى صباه يعمل بورشة عم رؤوف الكلدانى والد كلنار بعطلةالمدرسة الصيفية ، لذا فأنا أعرف أنه لن يقلقك أن يتصل بها ، وربما يكون فى عدم اتصاله بك إحتياطا منه لعدم متابعة رسائله إليك من قبل قوات الإحتلال وعسسهم من رجال الداخلية الجدد والتسبب لك بأى مضرة ، وأنا أعرف مدى تعلقه بك
لم أستطع اللحاق بوليم لأقنعه بعدم السفر إلى بغداد فقد أغلق هاتفه المحمول تماما قبل سفره بيومين ولما ذهبت منار إليه بشقته فى منزل أمه بجزيرة بدران فى شبرا، وجدت بطاقته المعتادة التى يلصقها على الباب ، ومكتوب عليها بمنمنمات حروفه الرقيقة كتكوينه الجسدى ( مسافر إلى هدف عاجل ، وحتما سأعود )، أسقط فى يدهالأنها أدركت أنها لم تختبر حبها لعمها وليم كى تقنعه بعدم السفر، فاتركى أمره لرب العباد يحميه ويحفظه ، وليم قلبه يحترق منذ أن سمع بالذى حصل من الأوباش الأمريكان مع فتاة المحمودية وأهاجه قصيدة (الدم مية) لصديقنا سمير الأمير التى قالها مرة أخرى فى ليلة عزاء أقامها أهل قرية صدام الجديدة المجاورة لمدينة سمنود ،والتى أطلق أهلها الإسم عليها تكريما للرجل الذى نفذ فيه حكم الموت درءا لكشف عيوبهم وكانت بما هى عليه من ألق وتعاطف واشتعال بالغضب يكاد يوازى غضب العالم كله ، فنصف نسائها عراقيات متزوجات من مصريين ، والنصف الآخر معلقة قلوبهن بأحبة وأزواج وأبناء غائبين هناك، وتفاعلنا كلنا مع سمير وهو ينشد : يجرى الفرات للجنوب
يجرى الفرات للجنوب
إيه غير صراخ اليتامى يشدّنا للفرات؟
محناش صحاب مصلحه ولا احنا كنا اخوات
مالناش ولاد لسه ف سن الجيش
ولا احنا غاويين انتحار
الحرب إيه غير ساحة موات ودمار
كثبان رمال وجماجم
إحنا مجرد حلم بالخُضره
مضروب علينا حصار الفقر والسخرة
ومندورين للهلاك بأمر رب الجنود.
يجرى الفرات والنيل ف عكس الإتجاه يجرى
ما كانش ليه ف العراق ضفتين
ولا نخلتين طارحين وبيت من طين
النيل ماكانش هناك بإراده
كل الحكاية أُجره أكبر شويه
والبحر مهما يفيض يحب الزياده
لكن اللى ميت غريب مالوش ديه
ولو سألت ابنك يرد عليك:-
-لو كان وطن واحد ما كنتش اغيب
وكنت أسيب دمى يحّنى الشط
على شرط نبقى زى بعض بالظبط
م يكونش واحد غنى وفقرا كُتار.
أموت معاك ازاى وعمرى عايش ميت
ميت عايش يدوب برقع توب قديم من توب؟
يجرى الفرات للجنوب ويجرى دجله معاه
والنيل ف قلب الصحرا عاكس الاتجاه
وكأننا مش ولاد بلاد واحده
لا حاربنا ف فلسطين ولا غنينا للوحده
كأننا جايين من كل حدب وصوب
يجرى الفرات للجنوب والطيارات فوقه
خايفه يمد إديه يمّتى فيهزنى شوقه ياخدنى هناك
أنا المحسوب ف جيش تانى
العسكرى المجنون قسمنى على نفسى وغمّانى
لا بقيت مع ولا ضد
ولا اكتفيت م الضحك ساعة الجد
أنا اللى كنت زمان بنيت السد
ورفعت راية العروبه
حاسس كإنى عبارة عن طوبة
ولو انى ديماً بافتح الراديو
على نشرة الأخبار.



24

لنجرب إ ختيارا آخر

منار
لماكان (الماسينجر) لا يسعفنى فى الإتصال بك بشكل مباشر لانفصاله المستمر بسبب رداءة الشبكة التى تأثرت أبلغ التأثر بعد الاحتلال ، وكنت أغتاظ كثيرا من الأمر لانقطاع توقك المتلهف لاستطلاع أحوالنا وبخاصة صحة ماجد الآخذة فى التحسن ، والاتفاق على ترتيبات زواجه بهيام ، أو إتمام عرس محمد وهيام ، أو مجريات الأمور فى نهر ترشحى لعضوية رئاسة أحد فروع نادى الكتاب ومن ثم الطموح لرئاسته ، لإنقاذ مسيرته المتعثرة فى السطحية والميوعة والضحالة الإبداعية والفكرية ، وارتقاء بمستوى أدائه من خلال حمل راية التغيير للأفضل والأجدى والأنفع بإزاحة من أسميتهم أنا ومجموعتى من إدارة شئون هذا الإتحاد بالحرس القديم المتكلس الأدوات والوعى والرؤى ، والمرتمى فى أحضان سلطة لا تعطى أدنى أهمية للثقافة والإبداع ، فأنا الآن أشعر بارتباك شديد لأنى قد أنقطع عنك لليلتين كاملتين بسبب سفرى إلى بعض المدن الصغيرة التى يتواجد بالإقامة فيها بعض الأعضاء من الكتاب وممن لهم حق التصويت فى الانتخابات ، للالتقاء بهم ، وتوصيل مضامين حملتنا من أجل التغيير إليهم سعيا للحصول على تأييدهم وأصواتهم ، أيضا طرح رؤانا للمستقبل عليهم
سأكتفى أيتها العزيزة بإرسال الرسائل القصيرة على الهاتف المحمول ، وبعبارات تلغراقية لك ، من خلالها تدركين الأحداث مفصلة من خلال معرفتك المقربة لحال وأحوال الكتاب والمبدعين هنا ، والتى لا تسر عدوا ولا حبيبا
على فكرة
منار الصغيرة مصرة على مشاركتى كافة جولاتى مع زملائى رفاق رحلتى والمترشحون معى فى جبهة الإصلاح والتغيير، وتعهدت هى أن تكتب لك تلك الرسائل من هاتفها ، وحين يجد أمر هام ستحول الرسائل إلى اتصال مفتوح بعض الشىء .
ذكرت لك هذا كى لاتقلقى من أنها لن تجلس أمام الحاسوب لترسل لك رسائلها هى الأخرى ، فلا يشغلنك أمر غيابنا هاتين الليلتين ، وكونى بخير وليتك تطمئنينا على الصغير والكبير عندك وبخاصة صحة الحجية مع دخول الفصول ببعضها وتقلبها .





25

أبو الطيب المتنبي يقتل ثاًنية في بغداد


عزيزي حسن
أشعر بالغيرة حين تكتب لي عن شجونك من ما يحدث في الوسط الثقافي المصري وينتبابني شعور بالحسد وأتمنى لو يتسنى لي الإنغراس فيما يحدث حولي في الوسط الثقافي العراقي الذي قاطعته منذ الغزو ولم يبق لى شأن به.
إهتمامي ينصب ياحسن في شؤون المقاومة والمشاكل التي أجد نفسي منغرسة فيها من جراء هذا الغزو اللعين ، لم أحضر أي نشاط ثقافي أو أدبي في العراق ولم أدل بأي حديث صحفي سوى حديث واحد تم حذف نصف ما قلته من قبل مدير التحرير الذي خشي على منصبه وراتبه ، تحدثت كالعادة عن حقي في مساندة مقاومة بلدي وقلت بصريح العبارة إن كل ما أكتبه اليوم هو نتاج لكل ما ينجزه فرسان المقاومة على أرض الواقع.
مسكين مدير التحرير لم يجرؤ أن ينشر أني أهدي كل كتاباتي إلى هؤلاء الأبطال الذين يسطرون ملامح جديدة لحياة شريفة في وطن لايرضى فيه الشرفاء من أمثالي إلا الحياة بالعزّ.
بعد مرور أكثر من سنة ، إستوقفني هذا المدير في شارع من شوارع بغداد وقال لي حانيا رأسه بأتجاه قدميه
:- أعتذر منك ومن العراق ومن كل فارس وطفل وشيخ سال دمه ليبقى الوطن الأبجدية الوحيدة التي ترفرف بشموخ .
أدباء الرافدين ياحسن مثل أدباء النيل والشام واليمن ، لايختلفون في شي سواء أن هناك من حول قلمه إلى بندقية وسيف وهناك من بردّ رأس قلمه كي لايكتب حرفا لايقوى على حمله ، وهناك من وجه سهم قلمه في قلب الوطن وأصاب أحشاء أبنائه .
لم تحزن وأنت أعلم الناس أن الغرب ينفق نصف ميزانيته كي يشتري بضعة أقلام وأفكار في عالمنا العربي ؟
واعذرني ليس لي اتصال بأي أديب وعلاقتي بهم لاتتعدى حدود الإيميلات والرسائل ، أستلم من بعض الزملاء الأدباء رسائل تهنئة وتأييد بالموقف ، وأجدهم مثلي انزووا عن قارعة الطريق إلى شقق ضيقة وبيوت موصدة الأبواب خوفا من الإعتقال أو الإغتيال،وحدي مع أسماء أخرى أتنسم عبق كتاباتهم في مواقع الانترنيت نمنح للقلم حيوية الرصاص والعبوة والآربي جي.
لازلت أحمل هويتيي اتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين الصادرتين قبل الغزو ، ولم أتقدم بطلب تجديدهما كوني لاأثق بالجهة التي ستمنحني الهوية الجديدة ولا بالأشخاص الذي يوقعون عليها ، لم أعد أثق بأية مؤسسة ياحسن تتشكل بوجودالمحتل . فأنا لاأستبعد أن تكون مخالبه قد مدت إليه ، ودست فيها السم الذي يقتلنا ونحن أصحاء حتى وإن كانت في واجهتها شعارات براقة تؤيد المقاومة
سأغيب أنا أيضا أياما عن النت ، أنا مسافرة غدا إلى مدينة السليمانية لأزور ابن شقيقي زهير الذي أصيب بمرض في الدم ، والأطباء لايستبعدون إصابته بمرض السرطان ، أسافر وأنا أجهل أن يكون مسموحا لي اجتياز الحدود وتجاوز نقطة العبور إلى السليمانية التي انفصلت عن الدولة المركزية في بغداد وأصبحت إقليما منفصلا ، ويسعى الساسة الأكراد إلى جعلها دولة مستقلة مع مدن كردية أخرى كأربيل ودهوك ومحاولتهم لضم كركوك إليها ، أظن سأحتاج إلى من يتكفلني من مواطنيين أكراد إن لم يعترفوا بالتقارير الطبيبة التي أحملها والتي تؤيد زيارتي لمريض راقد في مستشفاهم تم إحالته من قبل طبيب كردي في الموصل .
أستبعد ياحسن أن أجتاز الحدود فهم لايعترفون بأي تقرير طبي وصاروا يتعاملون كدولة مستقلة ويحددون عبور المواطن العربي العراقي إليهم ، والأمر شاق إن لم أتمكن من الدخول ، زهير راقد هناك ولا أعرف أين وصلت فحوصاته الطبيبة وليس من يرافقه سوى شقيقه الأكبر منه كريم .
أنا متعبة ياحسن بسبب مرض زهير فتكاليف علاجه باهظة ولن أتمكن من تدبيره لوحدي ، الأطباء ينصحوني بنقله للعلاج في دول أخرى ، اتصلت بطبيب عراقي متواجد في سورية ونصحني بنقله إلى هناك موضحا أن العلاج متوفر لكن ليس بالمستوى المطلوب ، وأشار أن العلاج متوفر في القاهرة أو عمان وأنت تعرف ظروفي المادية التعسة وارتفاع تكاليف العلاج في هذين البلدين.
إذا تمكنت من اجتياز الحدود مع السليمانية ، سأقوم بنقله إلى مستشفى أمراض الدم في أربيل حسب رأي أطباء السليمانية ، يقال إن العلاج متوفر هناك بشكل أفضل .
تأجل موضوع سفري إلى سورية بسبب الطارئ الجديد (مرض زهير المفاجئ) وأنا منزعجة جدا ، كنت بحاجة إلى هذه السفرة لتغيير الجو وتنسم هواءا جديدا ، أشعر بالاكتئاب والضجر رغم سفراتي المتعددة إلى الموصل وكركوك لكن مدن العراق أصبحت تتشابه في بعضها ، رائحة الدم البشع وصورة الدمار والموت يخيم على كل المدن لم تعد هناك مدن تفوح من بساتينها رائحة الزهور الندية ولا رائحة الآس المنبعثة من الشوارع والتي كانت تزرع بكثافة بين الجزيرات الوسطية.
آمل أن لايستهلك زهير جلّ وقتي وأفقد القدرة على التوازن وقياس الأمور بدقة فالإنغراس في أمورعدة مرة واحدة يضع الإنسان في مأزق الضياع الشامل.
المشكلة ياحسن أن هذا البلد تعصف به الأمراض من جهة ولاسيما الأمراض المزمنة مثل السرطان والإيدز المنتشر بكثرة في الجنوب نتيجة ممارسة عادات سلوكية غير صحيحة من قبل ثلة من البشر اقتحموا الجنوب من إيران ، ومايزيد الطين بلة عدم قدرة المستشفيات المحلية من تقديم العلاج الكافي لهؤلاء المرضى مما يستوجب نقلهم للعلاج في مدن آمنة والمنفصلة عن وسط العراق وجنوبه مثل أربيل التي تحتاج إلى جواز سفر لعبور الحدود. فالجانب الكردي المتحكم بهذه المدن يتعامل مع المواطنيين العرب بطريقة استفزازية تصل لحد منعهم من الدخول دون تقديم كفالة رسمية مصدقة .
الوضع مزر جدا ياعزيزي ولست أدري إن كنت سأتمكن من دخول أربيل أم لا، وهل أتمكن من تدبير كفيل كردي ، وحالة زهير تتطلب العلاج الفوري وأنا حائرة وعاجزة عن التفكير وإيجاد المبادرات.
لاتقلق إن تأخرت في الكتابة إليك كوني مقبلة على أيام عصيبة لاأعرف كنهها ولا مذاقها ، أسأل الله أن يكفيك شر هذا المرض اللعين وسائر الأمراض ويجنبك القلق والحيرة.
اتصلت بي صديقتي فاتن وأعلمتني أنها عثرت على ضالتها من المصادر والمراجع التي تحتاجها لإنجاز بحثها في مكتبات سوق المتنبي بعد أن استأنف عدد من باعة الرصيف في هذالشارع المتخصص بييع الكتب عرض موجوداتهم رغم الخراب الذي أصاب هذا السوق الثقافي جراء الإنفجار الذي راح ضحيته 180 شخصا بين قتيل وجريح ودمر معظم مكتباته .
وقالت فاتن إن البائع حيدر الذي أشتري منه أغلب كتبي عاد لعرض أكثر من 190 كتابا من بينها روايات غوغول ودستوفيسكى ونجيب محفوظ ومؤلفات علي الوردي ومؤلفات صادرة حديثا قام حيدر باستيرادها من المكتبات التي زارها ، وأخبرتني أنه جلب لي الكتب التي كلفته بشرائها لي أثناء سفره لدمشق وأنه ينتظر عودة سامي إبنه من السفر لإرساله لي إلى تكريت كما طلبت منه ذلك.
اتصلت بميثاق العاني صاحب إحدى المكتبات التي نجا أكثر من نصفها من حريق الانفجار ، وقال لي إن السوق لم يسترد عافيته فمعظم المكتبات لا تزال أنقاضا ، ومعظم الأبنية مدمرة ومع ذلك فإن أعدادا من المدمنين على أداء طقوس الزيارة اليومية للسوق مازالوا يترددون ويعرضون علينا المساهمة ماليا بإعادة بنائه.
العاني يرى أن معظم المباني لم تعد صالحة من الناحية المعمارية، وأنها بحسب تقديرات المهندسين أصيبت بأضرار فادحة في أساساتها وأصبحت غير صالحة للاستخدام أو حتى الترميم، ومع ذلك فإن عمليات الترميم التي يقوم بها البعض من تجار السوق وأصحاب المكتبات تسير ولكن ببطء شديد ودون تدخل من الحكومة حسب قوله.
بلغ خالتي سكينة السلام وأخبرها أن تطمئن وتنام بهدوء ، المقاومة متواصلة ولن تصمت إلى أن يخرج الغزاة أعداء الشعوب الحرة.
واليوم طالعت قصيدة توازى ما نحن به ، وماتلاقيه مدينة أبوالطيب وهى لشاعر أظنك تحدثت عنه مرارا بكرم وحميمية مرات كثيرة ، وأعتقد أن بينكما صداقة لفترة طويلة لم يعكرها غير وشاية لعينة باعدت بينكما لزمن، وهو محمد جميل شلش، وإليك هى
يا أبا الطيب سامحنا
فماذا سنقول
وعلي أي قوافيك نميل
وبأي من مواضيك نصول
فالميادين خلت..
الا من الروم وأحفاد المغول
وبنو شيبان ماتوا/وبنو حمدان ماتوا
وأصيلات الخيول
سئمت من غيبة الصيد الفحول
نسيت من ذلها معني الصهيل
نفرت تخبط في البيداء
في عصر الرزايا والذهول
يا أبا الطيب..
في أي المتاهات نجول
والي أي من الفرسان
نشكو ونقول/والاماني خدعتنا
وحكايات أبي زيد الهلالي قتلتنا
وأناشيد السكاري خدرتنا
والاغاني خدرتنا
والدواوين غدت
محض طبول في طبول
القصيدة طويلة ياحسن ، برغم تقريرية صورها إلا أنها لامست مواجع تاريخية قائمة وكثيرة ، وسأكتفى بإرسال نصها كاملا لك فى ملف ملحق بهذا ( الإيميل )




26

شموع الفرح تضىء ليل الوجع

منار ياشمعة العمر القاتم
رسالتك المطرزة بالوجع والأنين تخيفنى وأنا فى أسبوع أرقبه منذ عمريغور سحيقا فى الروح ، وكم أشتقت أن يكون أسبوعا للبهجة .
كيف لى ياعزيزتى أن أبتهج وزهير حائر بمرضه الذى يراوغكم؟ مابين تكريت وأربيل؟ ، وما بين تكريت والسليمانية ؟ وقد عجزت أن أوفر لك مجرد معلومات عن ذلك الأستاذ الجامعى بكلية طب جامعة الأسكندرية الذى باع الوهم لآلاف المرضى بعلاج سرطان الدم؟
كيف لنا بالبهجة وهيام عرسها هذا الأسبوع وأنت عنها بعيدة وقد كبرت بين يديك وحنايا قلبك؟ وكم تمنت هى طويلا أن يكون من يعدها لليلة العرس هو أنت ، ومن يصحبها بالسيارة الموشاة بالورود والأزهار ليلتهاغيرك؟
عندما قرأت رسالتك معى كانت قد فرغت للتو من لملمة أغراض كثيرة قامت خالاتها وسيدات من العائلة بشرائها ظهر هذا اليوم لزوم عرسها ، و بعد أن شاهدنها كل صبايا العائلة المتجمعات هذا النهار ببيتنا للزغاريد والتبريكات ومنجد الفرش والستائر ينجز آخر ما تبقى من لوازم أسرة غرفة النوم وغرفة الأطفال؟
إغبر وجهها والله وهى تقرأ حروف لوعتك وحيرتك من أجل زهير، وقالت .
:- حاول يا أبى أن تأتى ( تانت ) منار بزهير إلى مصر ليعالج هنا.
ولما قلت لها
:- و هل تمكننا من علاج شقيقك هنا فى بلد العلاج المتطور المزعوم
أسقط فى يديها ووجمت ودمعت عينها ، وقالت
:- إذن حاول معها أن تخرج لأيام تحضر عرسى ولتخفف من أوجاعها
ولكنى أعدت إليها حديثك عن حاجتك إلى جواز مرور بين مدنك العراقية ، وبعد أن تسربت أربيل والسليمانية إلى دائرة التجزيىء ، فما بالها بالعبور بين قطرين باعدت بينهما شقة الإحتلال ، وضاعفت هموم مصر وأوجاع المعيشة بها من انسلاخ قسرى عن جسد كان يشتعل بالمودة والألفة بينهما؟
هيام الليلة القادمة ستكون عروسا تزف إلى محمد نبيه الذى يراسلك عبر إيميله طمعا هو الآخر فى الإنضمام لحديقة حبك التى رعتها أمك الغالية لنا جميعا .
يقول إنه صار بزواجه من هيام واحدا من أفراد كتيبة العشق والمحبة العربية للعراق ولأرض تكريت ولعشيرتك البهية الضوء العربى
لا نريد اجترار حزننا على ماجد ومرضه الذى يقعده عن الإهتمام بعرس شقيقته ، والاعتناء بيومها ، والقيام بدوره المنوط بكل شقيق عروس جميلة كهيام ، وكأقرانه الذين نشاهدهم فى أعراسنا المصرية.
لم أستطع العمل بنصائحك منار الحنونة من أن لا أرهق نفسى فى اتباع التقاليد البالية والإسراف فى تجهيز هيام ، نعم أعرف تقاليد أهلى لديكم بالعراق وكيف يتحمل العريس كل ما يلزم العرس بدءا من تجهيزبيت الزوجية حتى ملابس عروسه ومصوغاتها، ولكنا نفترق هنا كثيرا ، إنها ملحمة الإسراف فى تجهيز البنت ، على كل حال مرت الأمور بالكاد ، إستدانةهنا ، وقرضا طويل الأجل من هناك ،والتصرف فى بيع قطعة عقار كانت مختزنة لزوم أمور طارئة ، تعرفين كم أرهقنا علاج حازم بألمانيا فى بدء مرضه اللعين ، وكم امتص ما ادخرناه للزمن وكم أخذ تطبيب ماجد بعد إصابته ببغداد من أموال ، ولكنى كما كان يقول لى أبى : أدع الله أن يرزقك ظهرا قويا تحتمل به الأحمال وثقلها ، ولا يرزقك الأحمال الخفيفة التى تنسيك شقاء الآخرين
أمس وصل الدكتور فاهم وابنته أميرة الأميرة وشقيقتنا الحبيبة رباب زوجته ، وهم الآن أسمع قهقهاتهم وسط شقيقاتى بالطابق الأعلى ، ويتجادلون فيمن سيركب سيارة الزفاف بجوار العروسين ، وتذكرت حلم هيام بمرافقتك ، والآن تدمع عيناى والله يامنار، وكان موقفا نبيلا من بنت السيدة منال شقيقة أم حازم التى تسكن ببورسعيد، وهى توأم هيام الروحى ، ومن كان متوقعا مرافقتها العروس فى كل خطواتها . أن تتنازل لأميرة بنت الدكتور فاهم عن رضى لا عن منة أو فضل ، فتزينت أميرة بأزهى الثياب التى أحضرتها معها من طرابلس وخطفت الأبصار بجمالها وبياض روحها ، حتى فغر معظم شبان العائلة وغيرها أفواههم ، وسمعت واحدهم يقول فى خفة وملاحة
:- والله لادفع فيك عمرى ياقمر
ومال برأسه على صديقه وقال : - بدر منور سبحان من صور ، عروستين فى ليلة واحدة ،واحدة مصرية والتانية عراقية ؟
تعرفى يامنار؟
عرسنا اشتعل هذا الصباح إبتهاجا وطربا حين وصلتنا برقية واتصالا هاتفيا بعدها بساعات . هل تخيلت وطاوعك خيالك لتعرفى من مرسل برقية التهنئة وهو صاحب الاتصال بنفس الوقت ؟
إنه وليم ..
يا ألله وليم ، إنه بخير ، و خير كثير ، وتزوج وكنار ويقيمان باللاذقية بشكل مؤقت حسبما التقطنا من عبارات متسرعة كان يرميها لأنه كان حريصا أن تسمع هيام تبريكاته وتهانيه لها ، ولما تناهى له تشنج صوتها بالبكاء أنهى الاتصال.
وكنا ليلة الحناء التى أحيتها فرقة الغناء التى كانت هيام أحد أعمدتها الأربعة، بينما نسوة العائلة اللائى لم يعتدن على هكذا غناء سرعان ما تجاوبن بتأمل قليل مع كلمات أغنياتهم المازجة الخاص بالعام .الوجدانى بالسياسى فاللغة راقية بعيدة عن صخب التفاهة لأغنيات زمن حب الحمير التى يحبها المطربون السوقة ، والعنب والخيار وعربات الكارو التى صارت موضوعات مفضلة لأصوات قادمة من مواخير رخيصة ، وسارقة وجع الناس ونومهم على حسراتهم برواج عبر فضائيات بذر مرذولى البلاد البترولية الملايين فى إقامتها
وبعد انتهاء الحناء والابتهاج حول هيام غنى الأولاد لانتصار المنتخب العراقى على السعوديين ومنجزا كأس آسيا فى كرة القدم ، لقدكانت ليلة الحناء يامنار ليلة أكثر بهاءا بهذا الفوز ، وكنا نسمع تعليقات الفرح مصحوبة ببوح عبارات الشماتة فى السعوديين ولم أشأ التعليق حينها على ما يقال ، ليس لأنى لا أحب كرة القدم ، ولا أهوى أجواءها ، ولكن لأن كل ماقد قيل حينها كان يثلج صدرى وخاصة الهزيمة للفريق السعودى بقدر الفرح للفريق العراقى الشجاع القافز فوق نهر النار ومحيطات الألم وأعاد تجذير إسم العراقى فى الضمير العربى كعنيد وقوى مقاوم حقيقى وأظن أنى أرسلت لك حينها رسالة على الموبايل باغتتنى عباراتها فأرسلتها فورالإنتهاء من المباراة ،وأظن أنها كانت تحمل نفس المعانى ، تهنئة وفرح معطر بالشماتة فى الفريق السعودى.
سأحكى لك يارفيقة العمر المخضب بالكبرياء والصبر الجميل عن حوارى مع إذاعة مونت كارلو الدولية ، التى استضافتنى وبعض من كتاب عرب ضيوفا مع العزيزة لطفية الدليمى لنشهد على تجربتها ودورها فى إثراء حركة الإبداع والثقافة بالعراق ما قبل وبعدالاحتلال ، وكما أنى أتهيب كثيرا الإدلاء بأحاديت لمحطات إذاعية ، فإنى تهيبت أكثر لأنى علمت صبيحة يومها من صديقى المخرج المسرحى العراقى الدكتور محمد حسين حبيب ، والمقيم ببابل عن حصولها قبل ساعات على حق اللجوء السياسى إلى فرنسا.
يا ألله يامنار..
هل نفرح لها أم نبكى ونعزى العراق ثانية ونعزى أنفسنا؟
هل نفرح لأن هذه الرأس التى قدمت أنقى الأفكار وأصلبها فى نهوض العراق قد نجت من مقاصل أعداء التاريخ والحضارة؟
هل نحزن لأن العراق بخروج من هم على شاكلة لطفية الدليمى يكون كمن سلب منه دمه وروحه وضميره؟
الأمر قاس جدا ياحبيبة على واحد مثلى رضع قناعة أن العراق حضارة ويراها تنساق الى التلاشى بخروج أبنائها وعمد صنع نهضتها فارين بأعناقهم
ولكنى تجاسرت وتابعت حديث من تكلم قبلى
وسأخبرك لو كان من ضرورة عما دار من حديث ، ولعلك تستطيعين العثور عن طريق الانترنت على الحوار كاملا بالصوت ومنشورا أيضا
وكثيرا ما سألت نفسى
:- هل كنت سأكون مرتاحا لو أنك طاوعتينى مرة من مئات المرات التى ألححت عليك فيها أن تتركى مكانك فى الجحيم وتفرين منه مؤقتا وتأتين إلينا؟
وكم اكتشفت مقدار أنانيتى التى تسكن تلافيف إلحاحى عليك ، صارحت نفسى وكاشفتها أمام نفسى ، وقلت والله ياحسن إنك أنانى فعلا ، تصر على أن تغادر منار بغداد رغبة فى رؤيتها ولترح روحك التى تتعذب ببعدك عنها أكثر من خوفك عليها هلعا مما يحدث هناك ؟ . فخجلت كثيرا من روحى أمام إصرارك الشاهق على عدم ترك بغداد ، وكثيرا ما كنت تفحمين وجهة نظرى بقولك
:- أأترك من رفعتنا فى أيام بهجتها ، لأبتهج بعيدا فى أيام حزنها وضعفها؟
وقنعت برأيك رغم قسوته ، هى ستكون الخيانة بكامل معانيها ، لأننا بهذا لن نغفر لهؤلاء المسالمين أمثال الدكتور فؤاد وزينب وعبد مهدى والست لطفية الدليمى أنهم فروا بأعناقهم التى كانت ستجز بهتانا وزورا.
بعد أسبوع واحد من الآن سنغادر أنا والدكتور محمود للمشاركة فى ندوة رمضانية بعد الإفطار مباشرة فى مدينة قريبة منا ، لعلك سمعتى بها كثيرا أيام كان يزورنا الشيخ سعد المصرى الذى كان يعمل بمحل الفروج عند أول الشارع كل يوم خميس عصرا ويحمل بين يديه الدجاجات المذبوحات لنا ولكم ، كنت دوما ما تجالسيه شغوفة بحكاياته عن ناسه الصيادين بالبرلس بكفر الشيخ التى سنذهب اليها.
منظموا الندوة أرادونا أن نتكلم عن فلسفة المقاومة فى التاريخ ، وذلك احتفالا بذكرى انتصار الجيش العربى فى العام الثالث والسبعين فى الألف الثانية على إسرائيل فى العاشر من رمضان
فاقترح عليهم الدكتور محمود أن يستعرض هو كل أشكال المقاومة تاريخيا بصفته مؤرخا وأستاذا للتاريخ ، وأستعرض أنا وضعية المقاومة فى العراق الشقيق بحكم اطلاعى على أحوالها وإسهاماتى المتواضعة وإبنى ماجد معكم ببدايتها ، وبحكم تواصلى المستمر معك كرمز من رموز المقاومة
أعرف أنها ستكون ليلة رائعة ، فأنا أعرف هذه المدينة وناسها جيدا ، تلك التى تتوافر على عدد كبير من رموز العمل النضالى الشريف هنا على مستوى القطر المصرى كله، وغالبية الفصيل القومى الناصرى منها الذى يملأ المشهد السياسى المعارض لسلوكيات وسياسات النظام القائمة
حين نذهب ونؤدى واجبنا سأرسل لك بكل تأكيد، ولكنى الآن منشغل فقط بقضية رغم أنها غير ذات أهمية لكنها تؤرقنى قليلا ، فهيام تود الذهاب معى لتستعيد فى نفس المكان الذى سننزل به بكفر الشيخ ذكريات أيام جميلة كانت تصحبنى فى مؤتمرت أدبية ، وكان آخرها العام الماضى الذى كنت مسؤولا عن لجنة البحوث فى هذا المؤتمر، وقدمت به شهادة عن تجربتى الحياتية والأدبية أثارت أيامها الكثير من الجدل بأروقة المؤتمر، هى ترغب بشدة بمصاحبتى وزوجها يعترض ، فماذا أفعل ، وأنت تعرفى أنى ضعيف جدا أمام رغباتها؟
أرسلى لها أنت رسالة على هاتفها المحمول علها تصرف نظرا وتستجيب لرغبة زوجها . فلا أرغب الطلب منه بالموافقة على سفرها معى لأنى أعرف مقدار حبه لها ولا يرغب بمفارقتها لحظة.
دمت لى ولها
دام عطاؤك الباهر
وأخيرا
أمى عندما هلت بشائر شهر رمضان تلهج روحها كثيرا بالدعاء لله ان لاتموت قبل أن تراك. فأرجو أن يساعدنا الله وتتحقق رغبتها ، فمن يدرى ، الأعمار بيد لله




27

كونى فى دائرة المحاق يجعلك قلقا؟؟

طاب مساؤك ياحسن
قبل الساعة السادسة بتوقيت بغداد ، أوصدنا الأبواب على أرواحنا وقلوبنا ولم نتمكن من أن نغادر شبرا واحدا خارج الباب الرئيسي ، على رأس الشارع من اليمين يقف همر، ترجل منها جنود مدججون بالسلاح ، وهمرأخرى قطعت الشارع إلى قسمين ، وهمرات أخرى تنتشر هنا وهناك ، هذا ما التقطته عيني قبل أن أرغم على الدخول إلى البيت وإيصاد الباب..
ماذا هناك؟؟
تسأل (الحجية) والدتي وهي تنهي صلاتها على عجل
: - ماذا هناك؟ خير ان شاء الله.
تغمض الصغيرة رباب جفنيها وتنام على مرفقي بعد أن قضت ربع ساعة تبكي بتواصل بينما أسرعت إحدى البنات لرفع الحاسبة من مكانها وضم أجزائها هنا وهناك خوفا من مصادرتها كما حدثت في المرة السابقة ..
قالت الحجية بصوت خافت أسمعها وأنا أهدُّهد رباب
: - إرفعي هذه المصيبة من هنا ، إذا اقتحموا المنزل ووجدوها هنا لن يمانعوا في اعتقالها واعتقالنا جميعا ، الله وحده يعلم أية مصائب بداخلها ، أكيد سيعثرون بداخلها على مقالات تشتم الحكومة وجنود الاحتلال. أعرفها . لن تستريح دون أن تشتمهم وتلعن اليوم الذي دخلوا فيه العراق.
ثم تقدمت نحوي ووضعت يدها على رأسى وقالت
:- كوني حذرة ولا تتلاسني معهم ، لاتدخلي معهم في حوار ينتهي إلى إعتقالك ، إنهم كفرة مرتزقة ، لن يمانعوا في اعتقالك ، كوني هادئة وتحملي ما يفعلون و يقولون.
قبل أن تنهي أمي حديثها معي ، كانت صورة مروان قد أضاءت في قلبي وروحي وتذكرت كلماته لي
: - عندما اقتحوا منزلي رفسوا الأبواب ببساطيلهم وعندما عجزوا عن فتح أحد الأبواب ألقوا بقنبلة صوتية ففتح ، وانتشروا في الغرف ، يرفسون بأقدامهم محتويات البيت . لم أتمكن يامنار من الصمت وأقف مكتوف الأيدي رغم أنهم قيدوا وثاقي وعصبوا عيني بقماش أسود اللون قبل أن يقوموا بإدخال الكيس الأسود في رأسي ، وأجلسوا الحجية والبنات في غرفة منعزلة وأوصدوا عليهم الباب بالمفتاح .
ساعة ونصف الساعة والهمرات الست وقفت دون حراك ،لم يجرؤأحد أن ينظر حتى من خصاص الباب ،إنقطع الإتصال الهاتفي أيضا ، دب ّ الخوف والرعب في أحشائنا ، كنا نتوقع أن يرفس الباب في أية لحظة أو نسمع صوت انفجار قنبلة صوتية .
تنفسنا الصعداء عندما انبرى مصطفى الصغير يصرخ من فوق سلم ّ الدار وكان قد أنسل خاطفا إلى فوق سطح الدار وقال بعلو صوته
:- أخرجوا لقد غادر العلوج ، الله اكبر.
نهض الصراخ من جوف الصمت وكانت الحاجة هي أول من تلعن وتسب وتشتم .
قلت مازحة ياحسن
:- اشتميهم وهم واقفون أمامك وليس من وراء ظهورهم.
أترك لك يا حسن موضوع ترتيب زفاف ماجد وهيام في عمان ، تعرف أن وضعي لن يسمح لي بزيارة عمان في هذا الوقت الذي حددتم فيه موعد الزفاف. كوني لاأحمل جواز سفر من نوع الجيم ، وتعلم أن الحدود الأردنية متشددة في السماح للعراقيين بالدخول إلى عمان.
اتصلت بهيام حسب طلب الحاجة الوالدة وأبلغناها أن تعد لمراسم الزفاف دون حضورنا إلى أن يهيئ الله لنا سبيلا للحضور ، واتصلت بنجلاء إبنة خالتي وزوجها وهيب وبصديقتي رنا وزوجها علاء للإنابة عنا في مراسيم الزفاف إلى أن أتمكن من الحصول على جواز السفر الجديد لي وللوالدة.
واعتذرت للدكتور فاهم في الهاتف الذي حدث بيننا ليلة الأمس في حضور زفاف أميرة ابنته على ابن خالك وهنأته بهذا الحدث السعيد.
أنا مرهقة ياحسن ونفسيتي لم تعد تسمح لي بحضور مناسبات الفرح ، قاطعت الحفلات منذ أن داهمنا هذا الكابوس اللعين وأحال حياتنا إلى مواسم من الحزن واللوعة.
إعتقال مروان أثرّ في حالتي النفسية ، إنقطعت أخباره عني ولم أعد أسمع عنه سوى الخبر الذي وردني من شقيقته سرسبيل من أنه نقل من سجن بوكا في البصرة إلى سجن المطار في بغداد ، ولم تحدد أي موعدلإطلاق سراحه في القريب العاجل ، وتضيف سرسبيل أن مروان التقى بأصدقاء له هناك ومنهم كريم وسالم اللذان أعتقلا في إحدى مناطق بغداد وهو بصحة جيدة ومعنوياته عالية ، إلا أنه بكى بنحيب عندما وصلت إليه أخبار استشهاد أسامة الذي تعرض إلى تعذيب من قبل رجال الأمن العراقيين بعد اعتقاله توفي على إثرها ، أسامة كان من الأصدقاء المقربين لمروان وكان يعمل ضمن الفصيل نفسه ، وطلب من والدتي أن تقوم بزيارة إلى قبره وقراء ة سورة الفاتحة على روحه وإلقاء السلام عليه ، مروان يؤمن ياحسن أن للشهداء آذان حية ينصتون إلى من يتحدث إليهم.
أبلغ الدكتور فاهم اعتذاري عندما تتلقى اتصالا منه فالوضع الأمني في بغداد إزداد سوءا ولن يتسنى لي الذهاب إلى بغداد لترتيب مؤجر جديد لمنزله عن طريق مكتب عقارات بعد أن تم ترميمه جزئيا، هناك حملة اغتيالات ضد الصحفيين وفيلق الغدرأصدر قوائم جديدة بالاغتيالات وإسمي تكرر أيضا في آخر قائمة لهم ، ولاأريد أن أقع فريسة سهلة لهم ، سأتصرف وأبحث من ينوب عني في هذه المهمة ، الدكتور فاهم صديق عزيز ولن أتخلى عنه في هذه الظروف الصعبة.
لست خائفة ياحسن وتعرف أني مؤمنة بالله وصبورة . لكن الحذر يسبق القدر ووجود ظروف أخرى تقف حائلا دون تمكني من زيارة بغداد الآن .
بلغ تحياتي لأم حازم ودعواتي لها بشفائه ، وقرب عودة ماجد بعافيته ليكون عريسا مقتدرا وتهانيا القلبية بزواجه من شقيقتي هيام وأبلغها إن دعوتها لي بالسلامة وصلتني وأنا ممتنة لها وللحجية والدتك الكريمة أطال الله في عمرها.
مشتاقة لليالي القاهرة ورؤية النيل من بعيد. أعدك حين أحصل على هذا الجواز اللعين (جيم) أن أقوم بزيارة قريبة جدا إلى القاهرة وتحديدا إلى الإسكندرية التي لم أرها سوى في أفلام سهير رمزي وميرفت أمين وبوسي وهي تتبادل الغرام مع نور شريف.
آخر الأخبار السيئة ياشريكي في الهم والغم وأخيرا في الكتابة. تعرض فيصل ابن الأستاذ نبيل إلى حادث إطلاق نار من قبل مجموعة مسلحة إكتشف أنها تنتمي إلى قوات أمن عراقية ، أصيب فيصل بطلق ناري اخترقت ظهره وتم إخراج الرصاص بعملية جراحية ، وبعد مضي عشرين يوما في المستشفى تم نقله إلى دمشق حيث لجأ والده المطارد أيضا من قبل قوات الاحتلال وقوات الأمن العراقية بسبب مواقفه الرافضة للاحتلال ، وصلتني أخبارا بأن ثلاث عمليات جراحية أجريت له ولازالت صحته متدهورة ، هل تعرف أن الأطباء في العراق نسوا الشاش في بطن فيصل؟ ، أليس هذا تطورا مذهلا يصل إليه أطباء العراق في ظل الديمقراطية التي ينادي بها بوش رئيس أكبر دولة في العالم تكافح وتحتل الشعوب لإجبارهم على تطبيق ديمقراطيتها.؟.
سينقل فيصل من دمشق إلى عمان حيث الأمل لإنقاذ حياته.
هل تريد المزيد من الأخبار التي لاتسر ياحسن ، لهذا أطلب منك أن لاتلح وتصر أن أنقل لك أخبار بغداد التي لازلت ترسم صورة مشعة عن وضع الناس فيها ، بغداد الأمس في خيالك فقط وخيال من زاروها، أما بغداد اليوم فليس فيها إلا الموت والموت بأنواعه وأجناسه وصوره الملونة . جثث هنا وهناك تنتشرمثل الأوراق والمناديل ، فماذا سيضيرك يارفيق روحى ، لو نزعت من رأسك قليلا من هم لتعتنى بصحة حازم وتتفرغ للبحث جيدا له عن مخرج من محبس مرضه الأبدى ، أو تضع لأمر زواج ماجد وهيام الاستعدادات الكافية ، فنحن متكئون على إرادتك ودأبك وصمودك ، واعتبارك هيام وماجد أبناءك وأنت ستتحمل المسئولية كاملة لو لم يتوفر لى ولا للحجية دخول عمان لحضور العرس
لكنى على ثقة أن العرس سيكتمل لأن أرواحا عربية كثيرة ستحيط به ، من أصدقائك وأهل بلدك المصريين وأقاربنا العراقيين اللاجئين لعمان.
دمت فى عراقنا متوغلا فى شراينه ،ودام حبك





28

عاجل لأن أمرك يهمنا


(( أنا امرأة تجازف كل برهة وتراوغ موتها... أتجول بين ظلال الوحوش البشرية التي ترفع سيوفها الصدئة ، تحز بها رقاب الخارجين على الخرافة والذاهبين إلى سلطة العقل. أمضي قدما في مجازفاتي الخطرة...
أقول كلمتي لأبقى أو أموت ، وأدون عبوري في الحياة بمواقف ، لا أكتفي بمغامرة العيش بين القاتل والمقتول إنما أضيء الظلمات بكتابات، وأكشف عن صورة الوحش المتربص بنا ، المتربص بي والمتشهي قطف رأسي الذي أعلنه كل صباح للريح والشمس واحتمالات القتل.
وحدي أطوي المسافة بين موتي الوشيك وموتي المؤجل بمحض مصادفة . والكلاب الضالة تأتي إلى حديقتي بأشلاء القتلى فأجد على الممرات مرة ذراع رجل أو كف امرأة ، ومرة قدم طفل تتنازعها عصبة من كلاب الحي.
لا شيء أشد توحشا من وحدة امرأة في بلاد القتل والمقابر والأشلاء ، وفي بغداد تحديدا. في وحدتي لا أرى أحدا غير صورتي تتكرر في المرايا ، وإلا ملامحي وهي تتغضن وحدها حين لا تؤكدها نظرة الآخر، ولا تنال من التأويلات والتساؤلات ما يهزّ سكونها ، ويقصي عنها ركود الموت. أولادي كل وأحد في بلد ، وأنا مصرّة على البقاء في بغداد لأنجز مشاريعي الثقافية في وقت تتأكد أهمية الثقافة إزاء تردي الأوضاع وشيوع المد الأصولي في البلاد.
في وحدتي أعيش بين الموت والأنا ، حين لا يعود أحدنا قادرا على رؤية وجه الآخر أو سماع نبرته أو استقبال ريبته أو تساؤلاته. عندئذ ينكفىء كل واحد مناّ على وحوشه الشخصية تلتهمه ويلتهمها ، ويرسل أي آخر إلى الجحيم...
أغامر بالعيش وسط حدائق الموت المزدهرة بجثث مجهولة ورؤوس مقطوعة وصمت مطبق من المثقفين وتصاعد نبرة التجهيل والتحريم. مجازفة شاقة وعبثية بالنسبة لكاتبة تحيا وحيدة وسط المجزرة، في "بيت" محاط بحشود المتطرفين وهجمات المتعصبين الساعين لفرض ثقافة واحدة على شعب متشابك الأنواع والأعراق والثقافات . أسمع عويل الرجال الجارح في المساء ، حيث أقدم المتطرفون على قطع سيقان تسعة من الشبان لانهم يرتدون السراويل القصيرة بحكم عملهم مدربين في مسبح الحي . يفككنني نحيب البنات اللواتي قتلت زميلاتهن في الحافلة الصغيرة وهن عائدات من عملهن في أحد البنوك ، مكشوفات الرؤوس بلا حجاب، فأطلق الملثمون المسلحون نيرانهم عليهن ثم عمدوا إلى قطع رؤوس ثلاثة منهن وألقوا بها على الرصيف عند الظهيرة ، نذيرا لسواهن من النساء العاملات.
أبقى وحيدة محاطة بمكائد وتهديدات ومكالمات من مجهولين على الهاتف الأرضي ، تنذرني بقطع الرأس إن أنا واصلت الخروج إلى عملي ونشر كتاباتي.
أكدح في نهارات الموت من أجل رغيف خبز و بضعة لترات من نفط للمدفأة ، في بلاد ينام جياعها على بحر من أكبر احتياطي للنفط في العالم!...))
منارة العمر المعمر بالأذى والصبوات نحو الموت.
أعذرينى لقصر رسالتى الآن
أنا أعرف أن هذا الإيميل سيصلك الآن وللتو حين تستعاد الكهرباء لتضىء غرف نومكم وأمام مداخل البيوت فقط ، ولتبق الشوارع مظلمة ، أعرف حسب قولك لأكثر من مرة أن هذا موعد عودة الكهرباء ، لذا قررت إرسال ( الإيميل ) العاجل لأخبرك بضرورة إرسال رسالة صوتية لك عبر الموبايل ، أو عبر رساله مسجلة على ( الهوتميل ) وأنقلها أنا على سى دى ، كما فعلت شقيقتى الكبرى لطفية الدليمى فى رسالتها الموجهة للمؤتمر ، والتى أرسلتها من باريس بصوتها ، ونقلت لك بعضا منها الآن ، عموما عند منتصف الليل أنتظر رسالتك ، أو ترسليها بصوتك عبر مكالمة هاتفية أثناء انعقاد جلسة الحوار لتذاع على الهواء مباشرة ، إن هذا سلوك مقاوم أيضا وليس ترفا كما تقولين ، فهؤلاء الشباب والفتيات الذين يجلسون أمامنا للانصات فى البداية ثم الحوار معنا ليلة الغد لا تشكين فى تعطشهم لماء الحياة الذى يمد المقاومة عندكم على أرض الرافدين ، ولا أصدق منك سبيلا لذلك ومعك عشرات المثقفين والمبدعين المقاومين ممن رفضوا مغادرة الوطن برغم سكاكين الذبح التى تطوق رقابهم .
سأمر على هيام ببيتها ونحن مسافرون للندوة. لأترك لها هداياك الرائعة لها بمناسبة عرسها ، والتى وصلتنا ليلة الأمس عن طريق فتى مصرى شهم يعمل بأحد مطاعم جبل الحسين بعمان ، والذى صافح أهله وأمه وبات ليلته بينهم وأصر أن يغادرهم صبيحة اليوم التالى قادما من مدينة رشيد البعيدة ليوصل الأمانة التى حملها له راجى جاركم وابن تكريت التى فر منها هربا من سيف المفخخات الذى رآه مشهرا أما م عينيه مرات عديدة
أنا الآن أستمع إلى صوت إختى لطفية وتهدجه ورجفات الحروف أحسها وكأنها شحنات من ألم مصفى ، وأنتظر وصول رسالتك الصوتية أو تأكيد اتصالك لحظة احتشاد مئات الشباب والرجال والسيدات بالملعب الرياضى فى ليلة رمضانية حول ثقافة المقاومة.
منظمو الندوة يستهدفون أن نسترجع انتصار القوات المصرية فى السادس من اكتوبر من عام 73 على الجيش الإسرائيلى ، وتحطيم نظرية القوة الخارقة التى لا تقهر وتحطيك خطهم المنيع المسمى بارليف ، ولكنى متفق ضمنيا على ربط ما يحدث بعراقنا وعراقكم من احتلال وغزو ونهب وتحطيم لبنية حضارة وأمة عظيمة ليس إلا واحدا من إفرازات سيئة لاستثمار مغرض لانتصار المصريين فى سيناء، فلولا الخيانة المبكرة من السادات المنتصر بجيش من العمال والفلاحين ، ماكان لأنظمة هزيلة تقوم بالساحة العربية ، وليحدث ماحدث بعد ذلك للثورة الفلسطينية وجنوب لبنان المقاوم واحتلال العراق والصومال ، لو لم تخرج مصر ، ماكان لكل هذه الحشرات الضارة أن تحوم فى سماء أوطاننا.
فى كل الأحوال أنت مرصدى ، وأنت حالة ترقبى للبهجة ، وأنت يقينى بأن الإنسان إنما خلق ليقاوم .
دمت صافية بهية فى حديقة القلب




29

مروان المشعل حرائق النسيان

مساؤك سعيد ياحسن
أخالك تجلس الآن على الحاسوب وتتأمل خانة صندوق البريد بعين يملؤها التفاؤل ، تنتظر مني إيميل هذه الليلة ، لن تتوقع أن يخلو هذا الصندوق العجيب من أخبار بغداد التي لم تعد تحمل بريقا من الحياة بين ثناياها.
وأنا الأخرى ، أدمنت الإيميلات حتى ليكاد يصيبني الأرق عندما أجد صندوق البريد بلا (إيميل ) أي( إيميل) ، المهم أن يشغل هذا الصندوق العجيب الذي شغل جزءا هاما من حياتي وحياتك وحياة كل الذين فرقهم الاحتلال .
هانذا أضع السمّ والعلقم لك في إيميل هذه الليلة أيضا.
أحشو هذا(الإيميل) بمبيد قاتل من تلك التي جلبتها لنا ديمقراطيات بوش .
جاءني اتصالان متعاقبان واحدا إثر الآخر في المحمول ، فرق الوقت بينهما دقيقة فقط بل ثانية واحدة .
في الاتصال الأول أنسل الفرح مثل المطر وغسل قلبي من الشوائب والأحزان ثم أعقبه الاتصال الثاني الذي خلط ماء المطر وفرحه بدم أحمر قاني مشوب بحزن عميق وأسى ثقيل.
رسالة مروان التي حملتها أمه إلي بعد زيارتها له في معتقل بوكا أزالت الأدران والآلام عن صدري وروحي ، لكن موت فداء إبنة صديقتي هيفاء على يد مرتزقة بوش وجنوده طردت فرحة مروان من قلبي. كأن السعادة مع حبيب قلبي مروان أصبحت حلما أمسك به بين أصابعي كى لا يطير بخفة ريش عصفور.
اتصلت جواهر الصديقة المشتركة لي ولهيفاء لتخبرني أن فداء وزوجها وطفليهما الصغيرين تعرضا لإطلاق نار من جندي أمريكي فوق الهمر أثناء عودتهما من بغداد لقضاء أيام معدودة في بيت العائلة بتكريت . قتل الجندي الأميركي فداء وهو يحمل في يديه كأس ويسكي متلذذا بقتل ضحيته بينما تحمل فداء بين ذراعيها مولودا لم يتجاوزعمره ثلاثة أشهر وطفلة لم تبلغ السنوات الثلاث .
عاد بها زوجها سنان جثة هامدة ليلقي بها في أحضان أمها هيفاء.
هيفاء التي تراءت لي صورتها وهي تنتحب وتتساءل ماذا أخبر والدها حين يطلق سراحه من المعتقل الأميركي؟ ماذا أقول له حين يتصل من المعتقل ويسألني عن أحوال أحب البنات والأولاد إلى قلبه. فداء؟.
تتساءل هيفاء من يحضر تشييع فداء ووالدها معتقل منذ سنة ونصف السنة ، وعم لها معتقل والخالان معتقلان ، وأبناء خالات معتقلون ، وأبنا العم معتقلون.؟
سألتني هيفاء وهي تلقي بنفسها فوق صدري
:- بماذا أخبر والدها وأعمامها وأخولها المعتقلون.. ماذا أقول لهذين الطفلين حين يسألاني عن أمهما وأين اختفت فجأة.؟
ألم أخبرك ياحسن أن المسافة بين أفراحنا وأحزاننا تلاشت ولم تعد تحمل فواصل؟
لم أتمكن من قراءة رسالة مروان التي كنت سأجن لسماع أخبار ترد منه ، كنت أتامل أي خبر يرد لي لاأن تصل منه رسالة أقرأها وعيناى يكسوهما دمع أبيض يحجب الورق وحبر الكلمات.
عندما سلمتني سرسبيل شقيقة مروان الرسالة التي وردت لي ،وهي عبارة عن قصاصة ورق أخرجها من علبة سكائر عثر عليها في الزنزانة بسبب امتناع المسؤولين بإدارة السجن عن تزويد المعتقلين بأوراق بيضاء لكتابة الرسائل إلى ذويهم ، غمرني ألم في صدري كدت أقع أرضا ، هل هو فرح أم حزن لست أدري، إلاأن شعورا غريبا راودني بالمصير المجهول الذي يلاقيه مروان وبقية المعتقلين ، إنهم خلف القضبان منذ سنوات ولا أحد يتدخل لفك أبواب السجن عنهم .
لم هم مسجونون؟ لاأحد يدري حتى أن مروان أخبرني أنهم عجزوا عن توجيه تهمة محددة إليه ، أخبروه أنه إرهابي وأنه يمولّ الإرهاب ، عندما ناقشهم أنه لايملك راتبا يعيش منه ويصرف على أمه وأخواته الخمس بعد أن طرد من الوظيفة التي كان يشغلها (ضابط في الجهاز الأمن الخاص) أيام الحكم الوطني ، تمادوا في تكرار التهمة وتثبيتها رغم افتقارهم إلى دليل يدعم اتهامهم.
أخبرني مروان في قصاصة الورق التي أخذتها من سرسبيل وقد غمرتها دموع الفرح وقرأتها قراءة أولية على ضوء الفانوس لأن الكهرباء كانت قد انطفاءت ثم أعدت قراءتها عشرات المرات مثل الظمآن إلى نقطة ماء في الصحراء.
كلمات مروان أثلجت صدري ، إكتشفت بعد لحظات أني أحفظ على ظهر قلبي فقرات منها :
((حبيبتي أعدك أن أجعلهم يدفعون ثمن كل لحظة عذاب قاسيناها معا بسبب هذا الفراق اللعين ، أطلب منك أن تحتملي ألم الفراق وأن تكوني صبورة ، سأعود ، وحين أعود سيدفعون الثمن غاليا جدا أولاد ال.... عزائي في المعتقل طيفك الذي لايفارقني ، وجهك على وسادتي ليل نهار، وعلى جدران المعتقل ، كتبت في كل ركن منها أروع قصائد العشق فيك يا أجمل نساء الأرض.
كوني قوية كعهدي بك وفاءا للوطن الذي نحبه معا ، كوني جميلة تغار منك أزاهير الأرض ونجوم السماء.. يا أيتها المتألقة في قلبي وذاكرتي إلى الأبد
قبلاتي لأرضنا الطيبة الحرة التي لن تبقى معتقلة طويلا ولوجهك الباسم المطرز بالمحبة والهيام))
حسن
أيها الباقى شاهدا على جسارة روحى . سأكتفى الآن بما أرسلت ، أخاف أن تقتحم الدموع عينى أمامك فأنت كم تكره الدموع لكثرة ماذرفتها من قلبك ياصاحب القلب الأخضر والمدجج بالأوجاع.
كن طيبا للأبد ولا تنسانى





30

للبهجة مواقيتها الحذرة

منار
سأحكى لك ومباشرة موقفا حدث لى عقب عودتى التى لم تكن متوقعة من منفى إجبارى دام لمدة عامين إلى عاصمة عربية عقب اتفاقيات كامب ديفيد وتوقيع معاهدة الصلح مع إسرائل من قبل نظام حكم السادات لمصر ، وبعد أن تم استبعاد كل الناشطين السياسييين من مثقفين وكتاب ومفكرين وفنانين ونقابيين من أوساط التأثير الجماهيرى ، وكنت واحدا منهم بعد حرمانى من مواصلة الدراسة والبحث ما بعد الجامعى فى فنون المسرح ، وقبل أن أعود لبغداد بزوجتى التى لم يكن قد مضى على زواجنا غيرأيام ، ودعنا بعدهما الأهل ميممين الوجهة إليها وكانت حاضنة كل المعارضين لأنظمة العمالة وقتها ، وكل السواعد المتعطلة الباحثة عن فرصة عيش كريم .
أذكر أنى وأنا أدخل خلسة صباحا إلى دار أبى بالمنصورة قادما من مطار القاهرة الذى وصلته منتصف الليل ، وكانت رائحة الندى لما تزل تحط على البيوت والأشجار ، وثمة بعض ماشية يسحبها أصحابها نحو الغيطان التى ماتزال نائمة تحت غبشات الصباح الصيفى المقبل بروائح زهور شجيرات القطن التى تتشامخ بامتداد البصر ، ولما دلفت لباب الدار وكان مواربا ، وبإدراكى أن أمى ستكون هى الوحيدة المستيقظة تعلف طيورها فى زريبة خلف الدار الكبيرة ، أو تنظف تحت ماشية يربيها الأشقاء ، أدركت أيضا ومن خلال الظلمة الواقعةخلف باب حجرة أبى أنه ما يزال نائما على سريره الحديدى ذى الأعمدة الأربعة التى يطوق أعلاها شريط عريض من البفتة البيضاء الناصعة والمطرزة بسنابل قمح ، ولطول قامته تنفلت قدماه من شباك السريرإلى خارجه فيصطدم بها من لا يدرك تضاريس الغرفة لظلامها
إستدرت لأقف كعادتى التى اعتدتها منذ الصغر أمام رأسه النائمة على وسادتها ، وما أن استجمعت بعضا من شجاعة روحية ، وطاردت تلعثما ، وقلت: - أبى ، حتى انتفض كالمذعورمن نومه ، يكاد أن يسقط لارتباكه وفزعه ، وفى الظلام ودفء النوم وصمت اللحظات ، راح يصيح بتهدج سرعان ما تحول لبكاء وتشنج ، وكانت كلماته تخرج صائحة متبعثرة:
:- أيوا
أيوا
والله كنت أفكر فيك ياحبيبى ، والله كنت حاسس إنك جاى ياحبيبى، والله والله ، والله ،
وراح فى نوبة بكاء مرتفع ، كانت لحظتها أمى الآتية من خلف الدار قد شعرت بشىء ما تصورته عارضا أصاب أبى ، فهمت مسرعة تفتح النافذة وهى تتعثر بجسدينا المتشابكين ، وكاد أبى أن يدغدغ عظامى فرحا ودهشة وبكاء ، ولما رأت ما رأت سقطت مغشيا عليها على أرض الحجرة حتى امتلأت عن أخرها بعد دقائق بنسوة الحارة وبعض المارة وكثير من أبناء العائلة والشقيقات ما بين باك ومزغرد ومتوجس.
منار
تذكرت تلك اللحظة التى لا تنسى من تاريخ جيل كان يقوم على رعاية وطن مقبلة أيامه على متاهة ، ومندفع نحو نفق معتم لا أثر إلا لعتمة شاملة به ، وهو ما توقعناه وصار الآن ، وكأنه قد كتب على هذا الجيل ملاحقة نفسه وملاحقة الآخرين له وملاحقة الحياة بعثراتها التى كتب عليه مقاومتها.
سأحكي لك ما بقى من لحظات شروق عن فائض تجربتنا ، ولكن لنعد الآن لمغزى قصتى وللحظة دهشة أبى لعودتى من منفاى على غير علمه بها ، لأن رسالتك أوحت لى بمثل هذا الشعور ، أحدس أمرا غريبا قد يحدث هناك . عندكم ، ولما هاتفت الدكتور فاهم بحدسى . إختطفت أختى الحبيبة زوجته الهاتف منه وهى ترتب حروف كلماتها بصعوبة وتقول:
:- إسمع ياحسن ، منار لن تقلع عن إيمانها بماتفعل ، إن المقاومة للمحتل الأمريكى لم تعد هاجسها فقط ، بل صارت حياتها التى لم تعد تعبأ بها ، وسمعت أنها تنجح يوميا فى تقليب الأفكار الطائفية السوداء التى استشرت بين العراقيين فى كل تجمع تتواجد فيه، تجاهر بالحقيقة ووحدة العراق الذى أكسب الإنسانية تجربة حضارة شاملة انطلاقا من وحدة تنوعه ، كل يوم أسمع عن انضمام الكثير من العراقيين لأفكارها سواء كانوا شيعةأم سنة أم لادينيين ، كردا أم تركمانا أم عربا أم كلدانا أم سريانا .
ورجتنى كثيرا أن أبلغك خوفهم جميعا عليك ، وهم يعلمون جيدا أنى أكثر حرصا من الجميع عليك وأن ماأحدس به وجدته قائما فيهم ، فأرجوك عجلى بإجراءات خروج هيام والحجية من بغداد إلى عمان للقاء أولاد عمومتك هناك والاستعداد للعرس طالما لم نتوفر على تأشيرة دخول لكم إلى مصر.
سيسافر ماجد وأمه وهيام ومحمد نبيل زوجها غدا إلى عمان
وبعد الغد ينتقلون إلى مدينة الزرقاء القريبة من العاصمة ليقيموا عند الحاجة فاتن بنت خالى مصطفى ، والمتزوجة من محمد أبو رياض الفلسطينى منذ أكثر من ثلاثين سنة ، وهى التى ستشرف وأولادها وبناتها الأربعة على تجهيزات ليلة العرس ، وأمس اتصلت ترجونى أن أقنعكم بأن يكون العرس عندها بالزرقاء ، فبيتها يتسع للأحبة ولو كانوا مائة.
عموما لوقدر لك الإنتهاء والحجية من إجراءات السفرمع هيام فسيكون لكما حق التصرف معها وأختيارالطريقة المثلى
أما أنا فمنتظر الدكتور فاهم الذى سيأتى بمفرده لرغبته فى السفر إلى عمان برا عن طريق العقبة من هنا ، ولتكون فرصة للفضفضة وبث الشجون من كلينا وأظنه يراها فرصة ليقنعنى بالضغط على إبن خالى الذى أتم خطبته على الغالية أميرة ابنته كى يتم زواجهما فى طرابلس ويقيما بها بجوار أمها طالما توفرت له فرصة أفضل للعمل بأحد مستشفياتها الكبيرة.
أعود للهاجس الذى اقتحمنى الآن يا رائحة الندى النقى منارالغالية ، أرجوكى بالغى فى الاحتياطات التى سبق ونبهناك بها كثيرا ، برغم أنه ومن المفترض أن يكون قد تشكل لديك حس الترقب والتوجس والتوقع أيضا ، وأنك خبرتى مناسك غبائهم وشراستهم ، وتدركين متى سيقتحمون الدار ، أو حتى متى يقدم هؤلاء العصاة للتاريخ وللكرامة وللشرف العربى أن ينفذوا فيك حكمهم الغبى ليسقط رقم من أرقام تظل تزعجهم فى القائمة التى أعدوها
أعرف كم هم مهتاجون لإصرارك عدم ترك العراق والفرار بعنقك كما يتباهون من هرب الشرفاء من وجوههم النحسة ، وأعرف أنهم برغم أجهزتهم التى تدربت على الغدر والملاحقة فى إيران . لن يستطيعوا التقاط دورك الحقيقى فى مساندة العمل المقاوم لعبثهم وشرهم ولنجس ودنس المحتل الأمريكى.
ولكن لا بأس
خذى أيضا حذرك أكثر ، وإن أتتك رسالة على بريدك الألكترونى تبدأ بحرف zوتنتهى به فاعلمى أن المبلغ المتفق على إرساله من الأخوة فى زيورخ واستوكهولم قد صار الآن بيد أمينة ، وسيتم تسليمه لكم فى خلال أربع وعشرين ساعة ، وهم متسامحون وبرضى كامل أن تجهزى رحلتك والحجية وهيام إلى عمان ولنفقاتكم ولإقامتكم هناك بجزء متفق عليه من المبلغ المرسل
كل ما يهمنى الآن ، أن تحاذرى ، وأنه فى الأخير لن يصيبك إلا ما كتبه الله علينا ، فبقاؤك هو بقاء للكثيرين وبقاء لنا وسندا






31

واتلمت الحبايب
على بعض من جديد
إشمعنى انت اللى غايب
عن جمعنا السعيد

عند مفرق جبل النصر وماركا الشمالية ومخيم المحطة ، وأسفل هضبة جبلية يبتدىء بها الطريق الملتوى الصاعد إلى جبل الحسين ومن خلفه منطقة الكسارات الواقعة خلف ماركا الشمالية. كان تجمع سيارات الأصدقاء من فلسطينين وعراقيين ومصريين وأردنيين ، أكثر من عشرين سيارة والله ، ومعظمها مزينة بشرائط الأعراس الملونة ، وفى المقدمة سيارتان مزينتان بالورود ، فى المقدمة سيارة عيسى أبو شخيدم الفلسطينى المقيم بمخيم المحطة منذ أكثر من أربعين عاما مع أسرته ، والتى سيقودها إبنه نادر الذى أنهى هذا العام دراسة هندسة البترول بالسويس فى مصر ، ويركب بمقعدها الخلفى ماجد منفردا ، وبجوار المهندس نادر ستجلس أم حازم ، أم العريس ، وخلفها سيارة سعيد الشيخ صديقى الأبدى منذ فترة الإبعاد القسرى لنا بعد اتفاقية كامب ديفيد من مصر وقد كان أيامها شابا حديث التخرج من معهد البلوتيكنيك ، وهو الآن صاحب شركة مقاولات كبرى . فلسطينى الأب أردنى الأم مصرى الجدة لأمه، وقد زين سيارته بالورود كما سيارة عيسى أبو شخيدم وأصر سعيد أن يقود سيارته بنفسه على الرغم من توافر أكثر من سائق خاص يعملون بمكتب شركته بالشميسانى ، وخلفه تركب هيام بثوب عرسها الأبيض ملكةمتوجةعلى عرش يومها العربى الملامح ،وبجوار السائق ، هى الحجية بكامل هيبتها ووقارها وملامحها المضمخة بالحزن والرضى ، بالأسى والتفاؤل الخفى، بلمعة العين المحشوة بالقهر على الغائبين والإمتنان للحاضرين.
سينطلق ركب السيارات الذى وفرت له أمانة عاصمة عمان كافة شروط الأمان ، وأطلقت فى مقدمته ومؤخرته سيارات الشرطة المهيأة للمواكب الرسمية ، فقد نما إلى علمى عن طريق سعيد الشيخ الذى يمت بصلة نسب إلى أمين العاصمة كينونة هذا العرس العروبى الملامح والتكوين ، فما كانت للروح العربية إلا أن تجهر بصدقها فى تلك اللحظة بهذه المبادرة الجميلة الروح وتشارك فى العرس الذى سيكتمل هناك بالزرقاء على بعد مسيرة نصف ساعة على الأكثر من حيث سننطلق من هنا مرورا بالرصيفةالتى قضيت بها شهورا رائعة وسط ناسها وقت أن باعد السادات بيننا وبين ناسنا بمصر.
كنت والدكتور فاهم وابراهيم حبش صديقى الرائع وابن عم الحكيم جورج حبش ومصطفى أبو الأنوار ابن خالتى صاحب ومدير أحد أهم المطاعم باللويبدة فى عمان نجلس بسيارةابراهيم حبش، وكنا نستمع بشغف من كاسيت السيارة لأغنية كنا نعشقها جميعنا فىسبعينات القرن الماضى للمغنية السعودية الضريرة ذات الشجن العالى بصوتها ، وكنا نهرج ونتصايح ونردد ويخرج صوتنا فيسمعه من كنا نمر بهم ،وهى تشدو
:- ( واتلمت الحبايب مع بعض من جديد ..
واشمعنى انت اللى غايب عن جمعنا السعيد ..
إيه حاشك عن لقانا ..
طب دا السلام أمانة ..
لو تبعت يبقى وقفة ..
لو تييجى يبقى عيد ..
على جمعنا السعيد )
الله .. ماأبهجها وأشجاها من كلمات وصوت ، وكان بقية العشرات من الضيوف والمشاركين تجمعوا وركبوا السيارات الباقية ومنهم أولاد خالتك وأولاد عمومتك فى خليط عربى وكأنهاأ سرة وقبيلة واحدة .
وفى الديوان الكبير الواسع العريض الممتد بامتداد شارع جانبى فى بداية جبل الأميرة رحمة ، والذى يخص قبيلة الحويطات الحجازية ، والتى هى من أهم قبائل الزرقاء وأعرقها ، وحيث سيقام عرس ماجد وهيام الذى لم يكتمل الفرح والابتهاج به لغيابك القسرى بسبب منع جنود الداخلية العراقية خروجك والسماح لفيصل إبن أخيك فقط لاصطحاب الحجية وهيام ، كنت طوال العرس شاردا عنهم عكر المزاج برغم أنها فرحة كبرى أن يشفى ماجد من إصابته التى تمنيتموه له جميعا شفاءا مبرءا من أى أثر يخلفها ، وأن يتزوج بهيام التى شبا معا وكبرا معا ورضعا الألفة والمجاورة والمودة والحب من التمام شمل أسرتينا لأكثر من خمسة عشرة سنة.
لم أعبأ بالصياح المبتهج ولا بدبكات الشباب الفلسطينى والأردنى الذى صنع حلقة من القلوب والأجساد النقية حول ماجد وهيام وهم يدبكون بعلى دى العونة وجدلى يا ام الجدايل ، ولابزغاريد الحاجة فاتن بنت خالى مصطفى وبناتها والتى تحمل نبرا مصريا ، ولا بسعادة أخى محمد أبو رياض زوجها وهو رجل طيب القلب لأبعد مدى . لأنى كنت منشغلا بك ، ويذبحنى الأسى الذى تقاومه أمك المحاطة ببنت خالى وأقارب زوجها من نسوة ومعظم نسوة قبيلة الحويطات ، وكانت تقاومه بروحها ، ولكن ملامحها التى أراها معتلة للمرة الأولى كانت تعذبنى أيضا
أرجوك منار الحبيبة لا تبتئسى ، واهتمى فقط بأمنك وأحوالك
وديرى بالك على أولادعبد مهدى ونحن على أعتاب دخول المدارس ، فالمسكين الذى أرسل مساهمة مالية كبيرة ضمن المبلغ المرسل من زيورخ ، وحيث استطاع الفرارإليها بعد محاولات كثيرةلاختطافه وقتله كما وجد ذلك بمنشور تحت عتبة داره بعلاوى الحلة ، وهو يتمنى عليك أن تدبرى من المبلغ المرسل أمور دخول بناته الثلاث وإبنه الصغير كاظم الى المدرسة هذاالعام ، واحذرى أن تعطى لأمهم مبلغا أكبر من حاجتها خوفا من سطو شقيقها قاسى الفؤاد ، والذى أودت قسوته به إلى مهالك الإدمان.
سنبقى هنا لأسبوع بضيافة بنت خالى الحاجة فاتن أنا وأم حازم والحجية وفيصل إبن شقيقك مهند، لإصرارها أن لا ننزل عند قريب أو بعيد أو بفندق وسيعود فى الغد أخى الدكتور فاهم برا عن طريق العقبة إلى مصر ، ومنها عن طريق البر أيضا يسافر إلى طرابلس ليبيا، هذاالرجل أمره عجيب وغريب ، كيف له إحتمال مشاق السفر برا ؟ ، ولكنه يفاجئك بقوله إنها من أمتع ساعات عمره وهو يقظ بالباصات أو السيارت التى تقطع طرق الأسفلت بين المدن العربية.
بينما أفاض أولاد عمومتك وأخوالك فى كرم الاستضافة برغم ظروفهم الصعبة هنا بعمان ، بأن حجزوا غرفة مزدوجة بفندق راديسون ساس بعمان لمدة أسبوع كامل للعروسين.
عند انقضاء الأسبوع سنغادر إلى مصر جميعنا ، وأحاول كثيرا السعى للحصول للحجية على تأشيرة دخول لمصر ، ويبدو انى لن أستطيع ، وهى مصرة على العودةإلى تكريت .
أكرر ألف مرة إهتمى بأمر نفسك فقط ، ولا أدرى لم أنا أكرر هذه الوصايا الآن ، فاللهم اجعله حدسا طيبا.
سأرسل لك فى الليلة التالية (إيميلا) أخبرك عن أحوال العروسين بعد أن نذهب جميعا لزيارتهما .
كونى بخير وانتظرى إيميلى فى الغد



32

السؤال بوابة الألم


دكتورةهاديا
يارفيقة أيام التألق بالجامعة المستنصرية
لن أوفيك حقا الآن ، فالمقام لا يحتمل أن أبث لك حنينى إلى أيامنا وسنواتنا التى قضيناها معا بالجامعة المستنصرية ، حين تعارفت عليك وأنت مازلت طالبة بالسنة الأخيرة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب ، وكنت أدرس أنا مادة تاريخ المسرح والنقد المسرحى بها ، وحتى مغامراتك البحثية فى بحث الماجستير الذى أعددتيه عن صديقتى الكبيرة لطفية الدليمى وكتاباتها المتوهجة بفلسفة الشعر ، وحتى حصولك على الدكتوراة التى كنت أتابع كدك وسهرك الليالى ، وقد صرت واحدا من أسرتكم بعد التقارب الذى صار أكبر بين أسرتى الصغيرة وأسرتكم الكبيرة وحتى القبيلة كلها بتكريت ، وكثيرا ما كنت أشعر بالمتعة وأنا أساهم معك فى ضبط الفيشات والبطاقات البحثية وتبويب المراجع والبحث عن كتابات مغمورة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة ، وقد كان بحثك عن المقاومة فى الفعل الأدبى الفلسطينى.
المقام الآن لا يحتمل ، وأشك أن لديك ما يساعد فى سكينة روحى ، بعد أن اقتحمها خبر مؤلم برغم أنه كان متوقعا ، حين أتتنى رسالة أختى لطفية الدليمى الآن ومنذ ساعة فقط ، والحيرة والارتباك ينخران حروفها ، لا تدرى كلماتها أتهنئنى على زواج ماجد وهيام ، وقد تمنت كثيرا لو لم تكن قد غادرت عمان منذ شهور إلى باريس وحضرته ، أم تنهى إلى خبر إختطاف شقيقتك منار؟
وما أن فرغت من ملاحقة حروف رسالتها عبر(إيميلها) الذى يقطر ألما حتى اندفعت نحو مواقع الإنترنت ، فتلقانى أول ما تلقانى موقع قناة الشرقية التى تبث من بغداد إرسالها وسمومها ، فوجدت خبر اعتقال منار أو اختطافها لا أدرى منشورا بالموقع المذكور ، وبكثير من الشماتة والتشفى.
بالله عليك كيف أنقل الخبر للحجية والدتك أو فيصل ابن شقيقكما مهند؟
ماذا أقول لهيام وماجد ونحن نزورهما آخر هذا النهاربفندق راديسون ساس؟
كيف أفضى بهذا الخبر اللعين لكل من أحاطونا أول من أمس بالفرحة؟
وكيف سيكون وقع هذا الخبر على الأم العظيمة التى انحشرت الأحزان كلها ببوابة قلبها ؟
لن أسألك عن وقع الخبر عليك وعلى بقية الأهل عندك بتكريت ،وكيف تتصرفون الآن ؟
حاولت الإتصال بصديقى عبد الإله المطلبى بقناة العراقية وهو على صلة وثيقة بمصادر معلوماتية إن كان لديه تأكيد للأمر ، وتركت له رسالة صوتية على هاتفه المحمول ، وبعد منتصف الليل وجدته يهاتفنى
:- ياحسن ، يارفيق التعب والرحلة ، هم يخططون أن يطفئوا فرحتك بابنك الرائع ماجد وزواجه من شقيقة روحه وملاذها هيام بنت الجذر العربى المقاوم كانوا يخططون لقتلك ، ويدركون أن منار هى الرقبة التى سيذبحونكم ونحن معكم جميعا منها ، ولأنهم كانوا قد ضاقوا بها ذرعا ، لأنهالم ترتدع من تهديداتهم ، ومن نشر إسمها ضمن قائمة اغتيالاتهم ، أعدوا للأمر عدته ليصيبوكما معا ، لاعلم لدى والله بأمرها ، وكل المصادر التى تقيم علاقات مزدوجة مع أطراف متنافرة لم تفلح فى تقصيها خلال الساعات الماضية ، والأمريكان الملاعين أصروا كثيرا على اجتثاث منارتك ، يحزننى أمر متاهتك يارفيق وانطفاء فرحتك، واختفاء منار ، فأنتم مثل عراقنا ، تمورون فى دوامة العذاب والقهر واغتصاب البهجة مابقى الإحتلال جاثما على شواطىء الرافدين
فهل لديك أيتها المكلومة مثلى من خبر أو يقين عنها؟ وماهى حالة الأهل جميعا عندك وكيف هم؟
كان السؤال دائما بوابة المعرفة ، صار ويا لوعتى فى الزمن الأمريكى بوابة الألم.
تمت





والعاقبة للمقاومين





الأخير هنا فقط





33
لن نفقد بوصلتنا وإن طال الغياب


كل ليل مهما اشتدت حلكته ، سيقعبه نهار يضىء لنا، ونعاود التواصل.

منار الغائبة قليلا
وحسن المترقب العودة