الأربعاء، 9 مايو 2012





الوطن المغترب ورسائل الحب والحرب

في

 إيميلات تالي الليل


لابراهيم جاد الله وكلشان البياتي

دراسة بنيوية
بقلم الدكتورة هلا الحلبي



وكان ان التقى مصري من بلاد الكنانة مع عراقية من بلاد الرافدين في سماء محايدة: الإنترنيت، فكانت مواطَنة رقمية، وكان علينا أن نتعامل مع هذه المواطنة الأدبية الجديدة، التي أوجدتها حضارتنا، على ما يحف هذا التعامل من مخاطر: إذ نحن إزاء إخراج أدبي جديد، يتناوب عليه كاتبان، بل أكثر، وحقائق تذكر بالأسماء والأرقام... والأخطر أن الكاتب مخفي وقد يلتبس عليك الأمر. فعلام يرتكز الناقد وهو المأخوذ بمرارات كثيرة: مرارة العنف التاريخي وواقع العرب الكئيب؟ أو على المآسي المتتالية علينا بدءا من احتل فلسطين مرورا بجراح كثيرة نالنا من جرائها ما نالنا؟ أعلى تمدد عسكري أميركي مشبوه في العراق ؟ أم على سيرة ذاتية ارتدادية تحمل ما تحمل من مرارة الغربة ممزوجة بلقطات حب دافئة خجولة مع نفحة غنائية متمثلة بأغان شعبية تعكس ظلالا جماعية على طيف الألم الفردي؟
لذلك كان لا بد من تحديد أبعاد يسهل بها تحديد هويتها وموقعها الروائي، فكان تقسيمها المقترح ضمن دوائر ولعل القاسم المشترك بينها هو واقع الاغتراب القسري الذي لف البطلين: غربة المواطن عن وطنه التي لا تضاهيها سوى غربته عن نفسه. بالإضافة إلى روح مستبد بها جراء حروب على الأرض، وعنف تاريخي يعصف بالعرب والإنسان، ونفس العاطفي لفّ هذه الإيميلات المكتوبة والمقتحمة عالم الحداثة الروائية.

أ_ الدائرةالأولى: الحدث والالتزام الروائي

في الإيميلات التي تبدو وكأنها متدثرة بعنف تاريخي رافق الإنسان منذ بدء البشرية، محتوى عنيف يبث صور العنف اللاحق بالعراقي والمصري على السواء.
فهل نسينا أننا أولاد قابيل، أولاد الشدة والبؤس، أولاد الشراسة، دمويون نعشق القتل والتدمير والخراب ونستلذ بآلام الآخرين ونستعذب عذابهم؟
في العراق، يبدو أنه أصبح عند العراقيين مهمة قديمة جديدة: دفن الموتى بعد قتل عشوائي، مع فارق أن لا ضرورة لشواهد القبور بسبب جهل أسماء اصحاب الجثث وكثرتها. ومع انتشار السجون الأميركية مثل بوكا وأبو غريب وسوسة، يعيشون رعب انتظار دهم المنازل تقوم به قوات غربية لا تملك غير القوة والاستبداد وتوقيف العزّل واعتقالهم بعد بث الرعب في قلوبهم: رعب الانتظار. بل لقد بلغت الاستهانة بأرواح الناس وممتلكاتهم حد القتل العشوائي والاعتداء الجسدي والاغتصاب .
وإذا كان التاريخ تعريفاً هو "تاريخ الأحداث المبني على المرويات المتوارثة من جيل إلى جيل"[1]فقد وفقت الكاتبة في تصوير رعب الحدث ورعب الانتظار وبخاصة في مبتدأ الشوق هو خبر الامتنان فنصها وثيقة تاريخية بامتياز: بما فيه من وصف للواقعة وعجز عن تعديل في مجرى الأحداث: حلا أو تدخلا، وكأن لا حق لها في تتغيير الحدث، لا تملك إلا الوقوف موقف المفعول لا الفاعل والمتفرج الذي لا حول له ولا قوة، لا تقوى إلا على الاستسلام والتأمل والتعليق.
فهل تحاول الكاتبة دخول ذاكرة الزمان التاريخية وإغناءها بالحس الأدبي كاشفة عن حاجة العربي إلى تغيير واقعه الاستسلامي والاسهام في كتابة تاريخ جديد عبر واقعية تجرؤ على وصف الحقائق وصفا يحمل لون الرفض والثورة؟
وهنا لابد من التساؤل إذا كانت هذه الرواية تحمل بصمة الحدث التاريخي بصدقه ألا يكفينا ما نشاهد على التلفزة وشاشاتها لتكون سجلا تاريخيا؟ أوليست الكاميرا أصدق إنباء من الرواية في نقل الحدث؟ أو بالحري أليست منافسا شرسا للرواية؟
الواقع أن الرواية بحبرها المدون بدم القلب، تحمل في طياتها تصوير الداخل الإنساني، بعاطفته وسورته ورعبه وجنونه، تصويرا قد يصعب على الكاميرا نقله بأمانة ودقة، في حين يسهل على القلم الروائي الذي نتحسس معه تكثيفا انطباعيا ونشوة الواقعية على قساوتها، أن يكون خير مصور للوضع البشري في تقلباته الهادئة والثائرة.
وإذا كان علينا في العراق ألا نتوقع من محتل غريب وعدو يربض على صدر الوطن سوى الظلم والقسوة والعنف ورغبة في الاستيلاء على الأرض والعباد من أبنائه، فهو عدو لئيم ومحتل غاشم _ وإن كنت هنا لا أسوّغ إرهابا وظلما
_ ولكن في مصر يبدو الأمر أشد تعقيدا، فمصدر العنف داخلي: مصدره سلطة حاكمة تعتقل أيضا وتقتل في المعتقلات أبناءها وتشردهم في أصقاع الأرض. فأي تبرير لها وهي الموكلة بتأمين أمن المواطن لا هدر أبسط حقوقه الإنسانية في الحرية والكرامة والعدل والتي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان منذ أكثر من ستين عاما؟
وهل وظيفة الأديب الملتزم قضايا وطنه إلا أن يحمل هم الوطن؟ فأنى لابراهيم أن يتعامى عن الواقع وينسى قتل أنثاه في السجون ظلما وعدوانا وتشريده ردحا طويلا من الزمان بصرف النظر إن كان تشرده قد صقل روحه الكاتبة وجعله أكثر صلابة وقدرة على المطالبة بحقوقه كابن لهذا الوطن ولهذه الأرض؟.
هكذا تولدت إيميلات تتدثر بعباءة العمل الروائي الملتزم، وتحكِم القبض على واقع الظلم بعد أن أفلت صاحبها بأعجوبة من يد الظالم إلا أنّ جراحات بقيت ممتدة أمامه بصورة جثمان حبيبة تدغدغ ذاكرته ليل نهار، فأنى له أن ينسى؟

ب_-الدائرةالثانية: الحلم الروائي وعالم الحداثة
أقحم الكومبيوتر وجوده في المنزل، وانضم معه الإنترنيت ليصبحا فردا جديدا في العائلة فأنسنا بوجوده وأرقنا غيابه، وأدمنّاه حتى صار جزءا منا، بل هو أشبه بساحر، حولنا من كائن أرضي إلى فضائي رقمي، كائن يتألم فيطلق أنينه في الفضاء، ولكن متى لم يكن يفعل ذلك؟ فما زال ندب جدتنا حواء الثكلى بابنها هابيل يتردد بأرجاء المعمورة ليذكرنا بظلم رافق الإنسان منذ ولادته، مع فارق بسيط أن هذا الأنين أصبح مدونا عبر رسائل رقمية ليلتقطه كاتبانا ويدوانه ليكون شاهدا على أنين عصرنا، شاهدا يملك سلطة العرض والإقناع.
فهل غريب أن يمتلك سلطة؟ وهل هو مطالب بحل جزء من مشاكلنا؟ أم أن كاتبنا ابراهيم جاد الله قد وجد فيه متنفسا لممارسة سلطة القلم، فنصب أشرعة الكتابة فنا أدبيا انطلق به من وطنه الصغير مصر نحو وطنه الأكبر العالم العربي ليحقق حلم العرب بالوحدة، تعاونه كلشان البياتي ، رفيقة كاتبة في قارة أخرى وإن لم تكن بعيدة كثيرا عنه جغرافيا أو كيانيا.
وحلم أمة الضاد، أن نوحد جهودنا وقوانا ونسير بخطى ثابتة، مثلما سارت أوروبا على تعدد لغاتها وتنوعها حين ثبتت قوة عالمية بفضل خطواتها البطيئة التي بدأت سوقا مشتركة سهلت التعامل بين الدول المشتركة ثم كانت خطوة توحيد العملة، قبل أن تصبح قوة يحسب لها حسابا، قوة اقتصادية وسياسية وثقافية تحاول أن تجد نفسها وسط قرن أميركي بامتياز .في حين ما نزال نلهث وراء قمع مواطنينا وتجاهل مستلزمات التطور، فنصم الأذن عن كل تخطيط يسير بنا قدما.
ألم يحن الوقت لنستفيد من تجارب الآخرين ونعرف أنّ القوة بالاتحاد وأن لا نفع يصيبنا من التخبط في مستنقع صممته يد غريبة ونفذته أيدينا بطيبة خاطر؟
فهل تحول بترولنا إلى نقمة بدل أن يكون نعمة؟ وهل نبقى غنيمة سهلة في يد الطامع الذي لا يلام بقدر ما نلام نحن الغارقون في ألاعيبه؟ ومتى نبدأ خطونا للتقارب والاعتراف بالتنوع الديمغرافي العربي من غير أن نفقد هويتنا المحلية، ومن غير أن نمس الآخر العربي المتنوع المختلف عنا؟ وهل من الصعب أن نخطو الخطوة الأولى التي تلغي الحواجز بين الدول العربية وتلغى معها جوازات المرور لكل مواطن عربي مثلما هو حاصل في أوروبا بين أبناء القارة الواحدة ؟
وإلام نحن معشر العرب نبقى في تقاتلنا ومذابحنا التي ننفذها بتخطيط غربي، نهدر دمنا وبدل أن نقتحم عالم الحداثة الذي سبقنا إليه كثيرون، نسير عكس الزمن بخطوات متراجعة نحو هاوية لا قرار لها.؟
هنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة: هل استطاع هذا العمل الروائي أن ينقل لنا المشاهد والأفعال بدقة ومسؤولية؟ وهل كان بأهمية الحدث أو بالحري هل استطاعت هذه الرواية أن ترتفع بالحدث إلى المستوى الفني ؟ أم كانت دونه قيمة؟ أو بالحري : أيهما أكثر تعبيرا: قطرة دم في سبيل الحق أم براميل من الحبر تهدر في سبيله؟
لا شك أن كلمة حق تقال في وجه سلطان جائر أو عدو غاشم هي من أبسط حقوق المواطنة، فهل مطلوب من الأفواه أن تكمّ، ومن القلم أن يسكت ولا يقوم بأدنى واجباته وهو التعبير الصادق عن الكيان الإنساني، والإفصاح عن الحقيقة وإن كانت جارحة.
صحيح أن للشهادة حقها ودورها، ولكن تبقى الكلمة المكتوبة تحديا مستمرا وطريقها شائكة مريرة: إذ من يستشهد في سبيل قضية يموت ويصبح بجهاده بطلا، أما الكاتب الثائر فعليه دائما أن يسير في جلحلة لا تنتهي إلا بموته واندثار قلمه. يكفيه ما يسجل من وقائع وما يطلق من أنين، على أمل ألا يصاب برصاصة ترديه وترده عن قول الحقيقة: إنه مشروع استشهاد مستمر وفعل شهادة حية.
لقد دخل كاتبانا هذه الجلجلة في "إيميلات تالي الليل" و كانت روايتهما شاهدا على المصائب التي تعصف بالوطن العربي في صدق صاخب، وعاطفة نتلمسها في طيات الرواية: عاطفة تضفي جوا دافئا يروي بعضا من غليل القارئ المرهق من صور الموت والدمار النفسي ، وتكون خيطا رفيعا، ولكن غير واهٍ يربط الأحداث ويشدها إلى وثاقه برقة ولباقة.
ج- الدائرةالثالثة: الوطن المغترب وخفقة العشق
يبدو أن الكاتب وهو في بلده مصر يحيا، مرارة الاغتراب القسري عن بلده الثاني العراق، والذي وجد فيه ومع أهل جدد دفء الأمان بعد تشريده عن بلده قديما: وبالمقابل، تجد الكاتبة في طيف الكاتب المغترب عنها دفء الأمان الآفل بعد احتلال وطنها من قبل أغراب وانتشار البؤس والدمار.
وهكذا غرقا في دوامة الاغتراب: اغترابه ارتدادي يسترجع به رعب الماضي بتداعياته الحاضرة: أسر ماض وقتل لحبيبة في سجون، واعتقال مستمر لم تهدأ وتيرته، واغترابها رعب تسجيل الواقع وانتظار الأسوأ.
وإذا كانت كلشان البياتي تجد طيف الحبيب البطل ممزوجا بطيف وطنها السليب الماضي بعزه، فإن ابراهيم جاد الله يجد في طيف حبيبته طيف الوطن البديل الذي احتضنه بعد تعسف وطنه الأصيل. وكلاهما مغترب يتجاذبهما انتظاران: رعب مكاني وشوق لقاء. وكأنّ في اغترابهما تحقيقاً لوجودهما الطيفي في عالم من حقوق مهدورة وظلم حاصل.
فأية غربة هي التي تعتصر الإنسان وهو مقيم في وطنه؟ وأي ألم يعصف به وحقوقه مهدورة في العيش الكريم ولا بصيص أمل في الأفق؟ وهل مصير سيزيف هو مصير كل عربي في سجنه الكبير : السجن الوطن؟ وهل هو الوطن وقد تغرب عن المواطن فأصبح غربة قاتلة وهمّا مقيما على قلوب أهله المقيمين على أرضه؟
إزاء هذه الغربة، كان من البديهي أن يتراسل غريبا الديار، ويتكبدا مشقة التراسل، وقد ربطهما شيء خفي من عاطفة مصرَّح بها بين السطور نجدها متناثرة بين طيات الرسائل . هذه العاطفة هي الغلاف الذي لف الرسائل/ الرواية، بورقة وردية تعلن حالة الحب مع الحرب، وتمزج الخارج المشتعل بالداخل الأكثر اشتعالا. ففي الحرب ترتفع وتيرة الأدرينالين المحفز الانفعالي الذي ينبه سائر الجسد تنبيها يطال الشق العاطفي، فيشتد الحنين، وتخفق القلوب، وإلا لما سعى اليوناني قديما لأن تشهد حبيبته المعارك المسرحية لتصبح بين يديه فريسة لينة، يسهل عليه تناولها. فكيف إذا كانت هذه المعارك حية بالصوت والصورة معا؟ كما يحدث وللأسف في العراق، أو كما شهدها البطل في مصر عبر مرآة ذكرياته الارتدادية مع هذه الأحداث؟
لقد كانت الوقفة العاطفية بمنزلة الملح في الرواية ، بها يظهر طيف البطلين ويختفيان ليسجلا لوعة الفراق وشوق اللقاء وأملا به. هو : يدخل قلبها من دون استئذان وهي مالكة الروح تشتعل في دمه شوقا واضطرابا .هو طير يرفرف نحو العراق مترقبا العودة ، ويسكن روح حبيبته وهي رائحة الندى النقى، متألقة في قلبه وذاكرته إلى الأبد، وها هو يعترف:
"وجهك على وسادتي ليل نهار، وعلى جدران المعتقل ، كتبت في كل ركن منها أروع قصائد العشق فيك يا أجمل نساء الأرض"
وسواء أكانت هي المقصودة بذاتها أم الأنثى الكونية بكمالاتها، فالأمر سيان لدى القارئ المراقب عن كثب الخيط العاطفي الذي يتقن كاتبنا الإمساك به وبصاحبته على الطرف الآخر.. يتقنه وهو ملتهب القلب بغاليته، يصور وقعها في نفسه وهي بدورها تتقن الذوبان في كلماته والتماهي في طيفه. وها هي تخاطبه بعد أن أدمنت رسائله الألكترونية:
ياصاحب القلب الأخضر والمدجج بالأوجاع.
كن طيبا للأبد ولا تنسنى
هي شريان عمره القادم، تعصف بها موجتان: الأولى يقودها قلبها والثانية عقلها وهي أسيرة عذابها وجراحها: المتنوعة بين خارجية تصيب الجسد وداخلية تعصف بقلبها ولا تستطيع أن تحسم أمرها بين حبيب ترتقب عودته، برائحة صدره ولمسات يده، التي تتحسسها على الرغم من البعاد، وعقل يشدها لتخوض غمار معارك الوطن بمسؤولية وواقعية. تقول:
نعم أنت حسن الذي أعرف سخونة دمه ومجراه في الشرايين والأوردة، وأعرف نبض قلبه وعدد دقاته في الثانية.
على مثل هذه السخونة في الكلمات، تشتعل الرواية حبا وحربا فتعصف بنبض القارئ المتجاذب بين فلكيهما المتناقضين، في وطن اغترب عن مواطنه وأصبح قبرا مفتوحا للأوفياء وجسرا يعبره الغريب الطامع والمحتل من غير كبير عناء.
[1] عبد الله عروي. مفهوم التاريخ.المفاهيم والأصول.ج2. المركز الثقافي العربي.بيروت والدار البيضاء. ط1. 1992.ص99